حاوره/ محمد ياسين رحمة

"سليمان جوادي" علامة وقف في الأدب الجزائري فهو من أسياد المقام في المُدوّنة الشعرية الجزائرية.. تستطعم في حرفه نكهة لفاكهة كل الفصول، وتنشق في معانيه عطر الأسرار والأنوثة والحب والجمال.. يُقدّم سليمان لغة غاوية تُراود قارئها وسرعان ما "تورّطه" في النّص الشعري وتمارس عليه أرقى طقوس الجمال المُتوحّش ذوقا ومعنى..
ارتبط اسمه بكثير من الفنّانين الجزائريين وجرت قصائده المُغنّاة على ألسن الناس عبر عقود طويلة.. قدّم سليمان جوادي للمكتبة العربية العديد من الدواوين منها: يوميات متسكع محظوظ ، أغاني الزمن الهادئ، ثلاثيات العشق الآخر، ويأتي الربيع، قصائد للحزن وأخرى للحزن أيضا، رصاصة لم يطلقها حمة لخضر، قال سليمان، لا شعر بعدك..

- هل هذا الزمن هو زمن الشعر، أو لنقل ما هو دور الشعر في هذا الزمن؟

مثل هذه الأمور نسبية من وجهة نظري فما أحسه أنا و أحياه لا يحس به غيري.. حتى الشعوب و المجتمعات تختلف و تتباين من حيث رؤيتها للشعر و من حيث تأثير الشعر فيها... الشعر لعب دوره و ما زال يلعب ذات الدور في بعض المجتمعات.. الشعب التونسي أثناء انتفاضته على النظام كان يردد مقاطع من أشعار أبي القاسم الشابي.. بالمناسبة أتمنى أن نعيد قراءة قصيدة إرادة الحياة للشابي كاملة حتى نتأكد أمرين اثنين و هو نبوءة الشاعر وصدقه ...

- يشكو القرّاء من استعلاء الشعراء و"طلسمية ما يكتبون" تحت مُسمى الحداثة، هل تعتقد أن القارئ العربي لم يعد في مستوى القصيدة الحداثية أم أن الشاعر لم يعد يعنيه القارئ؟

بعض الشعراء عاجزون على كتابة ما يُفهم لذلك ينساقون إلى كتابة طلاسم وألغاز مُدّعين أنها شعر حداثي أو ما بعد حداثي، هم في قرارة أنفسهم يدركون هذا العجز و لكنهم لا يسلمون به، بل نراهم يحاربون الشعر الجميل الراقي بدعوى أنه واضح و بسيط ولا يحمل جديد،ا أو بدعوى أن صوره جاهزة و إلى غير ذلك من التهم الباطلة، وقد كان مثل هؤلاء الشعراء غصة في حلق الشاعر العربي الكبير محمود درويش..

- هل تتابع قصائدك وحضورها وتفاعلها في أوساط القراء؟

أحيانا و إذا ما توفر الوقت و أجد متعة في ذلك

- أنت متّهم بأنك شاعر المرأة؟

تهمة لا أنكرها و شرف لا أدعيه كما قيل من قبلي..

- القصيدة المغنّاة أثبتت ظمأ الجماهير للشعر، حدثنا عن تجربتكم في هذا الاتجاه؟

اتجهت في وقت مبكر من حياتي الأدبية للأغنية و أنا الذي سعيت إلى ذلك لإيماني بأن جمهور الأغنية هو أكثر وأكبر من جمهور الشعر، وكان هدفي منذ البدء هو إيصال شعري إلى أكبر عدد من الناس و قد كان لي ذلك بفضل الأغنية..

- القصيدة المغنّاة أسهمت في الوصال بين "المواطن" واللغة، ألا تعتقد أن "ندرة" هذا "النوع" واستعلاء اللغة الشعرية الراهنة، صار أشبه بالجناية في حق اللغة وتنفير القارئ منها؟

جميلة عبارة "استعلاء"، الذين لا تصلح كلماتهم للغناء يدّعون أنهم أرقى من أن يكتبوا للغناء.. في السبعينيات من القرن الماضي وقعت مناوشة بيني و بين أحد الأصدقاء حين قام بعرض لديواني الأول "يوميات متسكع محظوظ" وقال - ما معناه- "أفضل و أحبذ لو أن جوادي بقي مهتما بالغناء دون أن يخوض في كتابة الشعر الحديث"، مستصغرا ومُقزما الكتابة للأغنية، فرددت عليه:" تأكد يا صديقي من أن أكبر شعراء العربية هم من تغنى الناس بأشعارهم"، ورحت أعدد له الشعراء الكبار بدءا من امرئ القيس مرورا بالمتنبئ وبهاء الدين زهير، وصولا إلى محمود درويش ونزار قباني ..

- لو قسّمت مسيرتك الشعرية على مراحل فما هي أزهى مرحلة وما هي "أعتم" مرحلة؟

أزهى المراحل هي مرحلة السبعينيات.. و أعتمها هي عشريات الدم و الدمار..

- ما هو تقييمك للمشهد الشعري الجزائري والعربي؟

أرى أن الشعر العربي عموما بدأ يسترد مكانته رغم بعض الابتذال و السطحية الذين تتعامل بهما بعض الفضائيات العربية مع هذا اللون الأدبي الجميل..

- هل تقرأ للشعراء الشباب، وما هي رؤيتك للغة الشعرية وأدوات الشعراء؟

أقرأ للشعراء الشباب و غير الشباب و تبهرني كثيرا قصائد بعضهم والتي تبشر بمستقبل زاهر لهذا الجنس الأدبي، وتعلن أن اللغة العربية في الجزائر ما زالت بخير رغم محاولة طمسها..

- كيف ترى موقع ومكانة الشاعر في المنظومة الثقافية والاجتماعية في الجزائر؟

حيثما وضع هو نفسه..

- ما رأيك "بالشعراء الإلكترونيون" الذين يتوالدون يوميا على الانترنت؟

كثير منهم عبارة عن فقاعات سرعان ما تختفي وتُؤمن أن البقاء للأجود..

- ما هي رؤيتك للمجموعات الشعرية الورقية في زمن الانتشار الالكتروني؟

ما هو جميل يبقى جميلا و ما هو رديء يبقى رديئا سواء كان مُورقا أو غير ذلك..

- أقرب نصوصك إلى نفسك؟

"رصاصة لم يطلقها حمه لخضر"..


- ما هي القصيدة التي تطمح إلى كتابتها ولم تكتبها بعد؟

ستأتي في حينها وأنا أقترب من الانتهاء منها..


رسالتك للشعراء الشباب وكلمة أخرى للقراء؟

لا تتعجّلوا الشهرة ولا تغترّوا بأنفسكم..


رسالتك للشعب العربي؟

اختزل القول في قصيدة "يا شعبنا ما أروعك"

يا شعبنا ما أروعك
يا شعبنـا قلبي معك
جـل الذي بعزيمة كبـرى
بـراك وأبـدعك
جـل الذي ببطولة ورجولة قد رصّعك
يا شعبنـا ...
مـا أتفه القلب الـذي
يحنو عليك ليخدعك
ويريك نور الشمس صبحا
كي يدبر في الليالي مصرعك
إسلام من...هذا الذي زعمـوا
يميت الحب فيـك
يبيح دوما أدمعـك
ويريق من دمك الغزير جداول
و يشق من يوم لآخر أضلعك
إسلام من...
هذا الذي وضع اللحى
فوق العقــول
وراح يبغي تصدعـك
و نضـال من...
هذا الذي أعطى الثمار جميعها

للمتخمين وجوعـك
وبنى لهم في كل شبر منزلا
وعدمت حتى مضجعـك
و إذا نطقت جنى عليــك
و في الغياهب أودعـك
يــا شعبنــا...
من في مهاوي الفقر غدرا أوقعك
من للورا قد أرجعــك
وأذاقك السم الزعـاف و أوجعك
من بالمصائب أوسعـك
بتدخل الأعداء جاء ليفزعك
من روعـك
يا شعبنا مـا أروعك
... ولرب شرذمة تقول بأنهــا
من عمقـك انطلقت
وترفض أن تراك وتسمعـك
لا تنتظر حبل النجاة من الذي
ما زال يجهل موقعــك
و يشاء من مكروا
انقسامك دائما
وتشاء حكمة ربنا أن تجمعك
ويشاء من مكــروا
احتقارك دائمـــا
وتشاء حكمة ربنا أن ترفعك
يا شعبنا يا ذا الملاحم دائما
قلبـي معـك
قلبـي معـك
قلبي معك

حاوره/ محمد ياسين رحمة

بين دهشة الحرف ودهشة اللون، شهقة زمن لا يعترف بالوقت.. زمن أفلت من سجن التكتكات.. في الـ هناك بين الحرف واللّون يُقيم فاتح عربي أعلن الجمال والتنوير على العالم، وأقام مملكته على جغرافية تهابُها البوصلات. إنه مُحمّد الخطّاط، كون شعري وتشكيلي قائم بذاته، ومشاكسته مُغامرة للغرق في ذلك الكون.. وكان هذا الحوار..


بين أبجدية الحرف وأبجدية اللّون، أين يتموقع الأديب والفنان محمد الخطاط؟

في زمن ما كنت خطاطا أقرّ لي بضبط الحرف من قبل خطاطين كبار، ثم غادرت ذلك العالم القيد إلى عالم مٌلوّن متسع له من الفضاءات ما لا يحد..

ما هي حدود التقاطع بين القصيدة واللوحة الفنية في أعمالكم؟

ليس ثمة من تقاطع بين اللوحة والقصيدة، كلاهما نتاج عقل، فما لا يمكن البوح به باللون، يمكن البوح به شعرا.. لكن ولكي أكون دقيقا، أرى أن اللوحة ليست بحاجة إلى معنى يقربها من المتلقّي مادام رسّامها على ثقة من أنه القادر على قول ما يريد شكلا لا مضمونا..

الوجوه وتفاصيل الحياة اليومية و.. هل هو توجّه لـ"فن تشكيلي توثيقي" في أعمالكم؟


نعم هو كذلك التوثيق ليومياتي عبر الوجوه التي ارسمها، وأعتقد أن بإمكان المتلقي المتبصر معرفة الحال الذي أنا عليه لحظة رسمي لأي وجه.

الفن يؤرّخ للحياة والوطن والإنسانية، فهل يؤرّخ الفنان للمجتمع والواقع والإنسان؟

الفن ومثلما تفضلتم هو خير مؤرخ لحقب متعاقبة بغض النظر عما إذا كان ينتمي لهذه المدرسة أو تلك.. ولهذا الأسلوب أو ذاك الآن يُمكّنك معرفة تواريخ أمم من خلال ما أبقته من أعمال فنية وكذلك معرفة حقائق وسلوكيات مجتمعات وأفراد.

ألا تعتقدون أن "العربي" يعاني من "الأمية التشكيلية"، لنقل أنه لا يمتلك أدوات القراءة الصحيحة لأبجدية اللون؟

مرة ولما كنت محررا في صحيفة الرسالة كتبت عمودا قلت فيه ما معناه أن الفن التشكيلي هو الفن الذي يأخذ شكلا ويشغل حيزا في فراغ ويشتمل على الرسم .. أتدري لماذا كتبت ذاك؟ لأن قارئنا لا يعي معنى التشكيلي أصلا، وهو يتصور أن صفة التشكيلي تعني الرسام التجريدي حصرا.

في مذكراته كتب جواد سليم ( العراقي يريدك أن ترسم له منظر الغروب على دجلة وتكتب تحت اللوحة الغروب على دجلة )، هذا ما قاله جواد سليم أواسط الخمسينات، والحال الآن على ما كان عليه لم يختلف قط.

أعتقد أن ثمة مسوغ لجهل الشارع لحقيقة التشكيل، ذاك هو افتقار مدارسنا إلى مٌعلّم مدرك لمسؤوليته.. هذا الجهل تراه عند الكثير من نقّاد الفن التشكيلي كذلك.. ما من ناقد التقيته إلاّ وتناول مضمون اللوحة لا شكلها.. وإن تجرأ على الخوض في الشكل فسيفصح بشكل أو بآخر عن جهله التام بمقومات ذلك.

أخي العزيز .. فاقد الشيء لا يعطيه وكما تعرف ( وأنت سيد العارفين ) أن الناقد هو مُدعّي إبداع اصطدم بحقيقة فشله فراح يداري ذلك الفشل بالكتابة نقدا.. هذه هي الحقيقة .

ألا تعتقد أن المُبدع عموما، أناني بطبعه، ينطلق من كونه الذاتي كيف يرسم تضاريس الجمال في العالم حوله؟


قالوا أن كل ذي عاهة جبار.. ومفهوم العاهة هنا لا يعني بالضرورة خلقية بل النفسية كذلك ومن تلكم العاهات الشعور بنقص قد يتفاقم بمر الوقت ليستحيل فيما بعد إلى أنانية تنعكس، شاء أم أبى، على إبداعه، وتُلقي بظلالها على سلوكه الأخلاقي، وحتى استنادا لهذا يمكن قول أن الإبداع إفراز لعوامل نفسية لك أن تٌعدّها سببا أمثل لمقومات الإبداع.

هل هناك مبادرات لإنتاج كتب أو أوعية أخرى لتعليم "العربي" قراءة اللوحة وفق قواعد معينة وعدم الاكتفاء بالذوق والتّذوّق؟

فات االأوان، وكيما تنقذ ما يمكن إنقاذه تحتاج إلى عمر مثل عمر شعيب.. الكتب متوفرة .. لكنهم ( لا يقرؤون ) وهذا هو المشكل.

الحياة هي أرقى أنواع الفنون، كيف ترى حضور الفن التشكيلي في الارتقاء بممارسة فن الحياة وفقه الجمال في عالمنا العربي؟


كنت وبناء ً على كوني ماركسيا أعتقد أن الفن وسيلة تثوير .. مهمته إيقاد جذوة الثورة عند الناس.. بعدها وجدتني مؤمنا بأن مهمة الفن تنحصر بالتنوير، ومعنى التنوير عندي إيقاظ العقل من سباته الطويل بالسؤال: ماذا أراد الفنان؟ بهذا هذا التساؤل هو الممهد الجبار لأسئلة وأسئلة سترتقي بالعقل إلى فضاءات من التّفكّر والتبصّر..

هل الفنان مُطالب أن يجمّل ما هو قبيح في محيطه أو أن يضيء الجميل المخفي أو أن يؤثّّث الذات المتلقية كي تكتشف الجمال فيها وتفيض به على محيطها؟


لاشك هي تلك وظيفة الفنان، اختفاء الجمال على الأشياء والنفخ في الرماد بحثا عما يمكن الاهتداء بهدية من قبس..


حدّثنا في هذا السياق عن رسالتكم في العراق خلال العشرية الماضية؟

لا أظنني أنجزت عملا يستحق الالتفات له بقدر ما حاولت الوصول إلى ما من شأنه الرقي بذائقة المتلقي، سواء أكان ذلك شعرا أو رسما..

ما تقييمكم لواقع الفن التشكيلي العربي، وحضوره في التربية والتعليم والحياة العامة؟

المشهد التشكيلي العربي هكذا أراه .. بالرغم مما أشرنا له سلفا .. والذي أسميته أنت بــ ( الأمية التشكيلية ) ومما يثبط من عزائم الفنان ... وهن كُثُر..

الإبداع ثورة بطبيعته، فأين تلمس حضور الفنان في الثورات العربية؟


قلت لك .. ما معناه أني اعتمدت التثوير مبدءاً ولزمن كاد يكون طويلا لكن بعدها وجدت أن ليس من الإنصاف تكبيل الفنان وجعله معنيا بثورة (كفنان) لذا أقول إن كان الإبداع ثورة، كما قلت، فلتكن ثورة تنويرية فحسب.

القلق الوجودي، الاغتراب النفسي.. أوجاع الفنان الذي يبحث عن انتماء إنساني، فما هي أوجاعكم؟

حسبي وجعا ذاك الذي تعرفه من انهيار بنىً كان يمكن لها أن تضعنا على جادة الخير الموصلة إلى بر الأمان..

ما الذي يعنيه لكم الخط العربي في منظومة الانتماء؟

الخط العربي فن له من مقومات الاحترام الكثير الكثير، وهو كما تعلم المؤشر الأمثل على ثقافة امة وعنوان تفردها التشكيلي وسط ثقافات الأمم..

كيف ترى مستقبل الخط العربي مع البرامج الالكترونية الصانعة للخطوط؟


أراه معتما جدا بالرغم من حرص النبلاء المعنيين . إن ما يدعو للألم هو هذا الغزو المرعب لأبجديات حاسوبية صممت من قبل مؤسسات لا تعي معنى الجمال ولا أخالها ملزمة بضابط أخلاقي يمنعها من التجاوز على خصوصية امة.


في اعتقادك، هل الآتي العربي سيكون أجمل أنقى وأرقى.. أم أن المقولة "ليس في الإمكان أبدع مما كان" ستكون أكثر صدقية مستقبلا؟

بل ( رب يوم بكيت منه فلما افتقدته بكيت عليه )

لو باغتك الخيال، ورسمت لوحة تختزل فيها العالم العربي في أحداثه الراهنة، فأي الألوان ستستعمل.. ولن أقول ماذا سترسم؟


اللون عندي صبغة ليس إلا، فبأي الألوان رسمت سيان ... لا دلالة للون ولا أريد له أن يكون دالا على مدلول.. أفهم اللوحة على أنها مدلولاً محضا .. وبذات الوقت للمتلقي أن يراها دالا ً أيضا.

كلمة لكل العرب؟

شكرا لكم أتعبتكم معي ..

كيف يكتب محمد الخطاط بيوغرافيته في سطور؟

أنا محمد الخطاط تولّد عام 1957 بغداد.. لأسرة جنوبية الانتماء واللهجة، بغدادية السكن.. بدأت الرسم أيام الدراسة الابتدائية ومثله الشعر، فكان نتاج ذلك وعبر الزمن، الكثير الكثير من اللوحات وخمسة كتب اثنان منها ( عن دار ثقافة الأطفال وثلاث مجاميع شعر ( نهارات رمادية ) و( لفادية زهرة القرنفل ) و( على ورق اسود ـ قيد الطبع الآن )، ولي إسهامات متواضعة في التظاهرات الفنية، وكذلك معارض شخصية.

ــ عضو الاتحاد العام للأدباء العرب
ــ عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق
ــ عضو نقابة الفنانين / تشكيلي
ــ عضو نقابة الصحفيين
ــ عضو اتحاد الصحفيين
.....
عملت محررا للصفحة الثقافية
ــ صحيفة صوت بغداد ( الصادرة عن أمانة بغداد )
ــ صحيفة البلد الأمين ( الصادرة عن وزارة الداخلية )
.....
معاون مدير منتدى بغداد الثقافي


عبد الباسط ولدخصال في حوار مع "فضيلة مدني" أرملة فقيد الصحافة الجزائرية "شوقي مدني"

شوقي مدني …واحد من ألمع الأقلام التي عرفتها الصحافة الجزائرية، من مواليد 20 نوفمبر 1956 بالمدية متحصل على شهادة ليسانس في الأدب العربي جامعة الجزائر جوان1985، التحق بالصحافة سنة 1985 وكانت بدايته في مؤسسة الشعب، لينتقل بعدها إلى أسبوعية الوقت التي عمل بها كرئيس تحرير ليحط الرحال في جريدة الخبر التي عمل بها لأكثر من 10 سنوات كصحفي ثم رئيس القسم الوطني، لينتقل بعد ذلك إلى يومية " يوم الجزائر" التي اشتغل فيها كنائب رئيس التحرير لتكون بعد ذلك أخر جريدة اشتغل بها شوقي. وافته المنية في 14 أكتوبر 2009 تاركا وراءه سيرة مهنية يحتذي بها.. في الذكرى الثانية لوفاته وتكريما له ارتأينا القيام بحوار مع أرملته "السيدة مدني فضيلة" التي أعطتنا الفرصة لنبحر في حياة شوقي الصحفي والرجل بأعين الزوجة..

- بعد مرور عامين على رحيل أستاذ الصحافة شوقي مدني، هل من الممكن أن تصفين لنا صورة " ما بعد الرحيل " ؟

السيدة مدني: ما بعد الرحيل،.طبعا لم تعد الحياة كما كانت، تصور رغم أن الموت حق لم أكن أتصور يوما انه سيفارقنا خاصة بهذه الطريقة.
كان خبر موته كالصاعقة، جملة صديقه وهو يخبرني عن وفاته لازالت ترن في أذني قلت له: ما بك هبلت ورميت الهاتف... شوقي لم يمت شوقي خطف من بيننا في رمشة عين... أكيد الحياة أصبحت صعبة جدا، الوحدة التي اشعر بها اليوم لا مثيل لها رغم أننا لم نعش كثيرا مع بعض، أقصد كان دوما غائبا من أجل العمل لكنه كان هنا موجود.. إلى جانبي وجانب أولاده.... نزيه وريم يتألمان لفراقه كثيرا وماذا عساهم يفعلون غير الدعاء له والإيمان بقدر الله..


- كلنا نعرف تعلق شوقي بمهنة الإعلام التي لم يفكر يوما في الابتعاد عنها.. هل لك سيدتي أن تُحدثينا عن شوقي " الصحفي " بأعين الزوجة ؟

السيدة مدني : شوقي أحب الصحافة حتى النخاع.... لم يكن أبدا ليبعد عنها مهما كانت الظروف.. لم يتخل عنها في السنوات الصعبة، كانت الصحافة تسري في عروقه رغم ظلمها له.. طبعا كزوجة لم يكن يعجبني غيابه الكثير من أجل العمل وتفضيل الصحافة مجبرا على عائلته، لكن ما باليد حيلة.. كان من الواجب احترام اختياره والعمل على أن ينجح فيه حتى وان كان ذلك على حساب سعادتنا كزوجين...


كتابات شوقي كانت سياسية، من خلالها تطرق لمواضيع جد حساسة... هل كان لهذا ردة فعل من جانبك ؟ أقصد ... ألم تطلبي منه يوما عن الابتعاد عن مهنة الصحافة؟.

السيدة مدني: كنا نتناقش حول مواضيع كتاباته خاصة الحساسة منها، لكن بدون أن أتدخل في رأيه، وهو كان مميزا في طرح مواضيعه بدون تجريح لأحد.. نصحته بالابتعاد عن الكتابة عندما أصبح مريضا وابتعد عنه أصدقاؤه... ترجيته أن يرتاح ويبقى معنا لكنه لأخر لحظة كان يريد أن يبقى في الصحافة وان يكتب.. فهو كما قال كالسمكة التي تخرج من الماء إذا ترك الصحافة فسوف ينتهي.

تنقل الفقيد بين العديد من الصحف اليومية في الجزائر، هل لك أن تخبرينا عن الصحيفة التي تعلق بها وأحب شوقي العمل فيها أكثر؟ وما السبب؟.

السيدة مدني : رغم عمله في عدة جرائد إلا أن جريدة الخبر تبقى عروسه المفضلة فقد أحبها حبا جنونيا حتى كتب في جريدة المحقق أن "زوجتي تخيرني بينها وبين الخبر"... .تصور انه مرض عندما استقال مضطرا من هذه الجريدة وكان ينتظر يوميا أن يكلمه احدهم للرجوع عن قراره لكن لا حياة لمن تنادي... كان يموت ببطء رغم انه أنهى مشواره في جريدة رائدة هي وقت الجزائر....

- هل فكر شوقي في العمل يوما لصحيفة أجنبية؟

السيدة مدني : لم يفكر في العمل مع جريدة أجنبية رغم أن جرائد ومجلات عربية أغرته بالعمل معها..




أكيد بحكم معايشتك وقرب الكبير من أستاذنا، فأنت على إطلاع على الكثير من جوانب حياته... كيف كانت علاقات شوقي بزملائه وأصدقائه والشخصيات التي عرفها؟.... هل بقيت هاته العلاقات بعد رحيله... أقصد هل استمر الوفاء لشوقي من خلال التواصل والاهتمام بعائلته؟

السيدة مدني : علاقاته كانت كثيرة مع زملائه وأصدقائه... كانت له علاقات طيبة مع مسؤولين كبار ووزراء وكتاب ومثقفين وو.. الآن هو تحت التراب فمن يسال عنه... أو يسأل عن عائلته... هذه هي الحياة..


من خلال كتاباته الصحفية عن كل ما هو سياسة وأحزاب... هل كان لشوقي انتماء لحزب معين أو تطلع سياسي ما؟.

السيدة مدني : كتب عن أحزاب عديدة لكنه كان حيادي في ذلك كثيرا.. هو لا ينتمي لأي حزب، كان يكتب عن حزب الارندي لأنه كان حاضرا كما قال عندما ولد هذا الحزب وكان بصدد الكتابة عنه في نهاية مشواره الصحفي إلا أن القدر كان أسرع..

كيف كان يتعامل شوقي مع كل ما يُوجّه له من كلام أو انتقاد بعد كل موقف يتخذه من خلال كتاباته؟

السيدة مدني : عادي لأنه متأكد من مصداقيته ومن مصادره...


مكانة شوقي الإعلامية التي يحلم بها أي إعلامي، لم تجنبه لمعاناته مع مشكل السكن، معاناة كنت أشرت إليها في مقالك لإحدى الصحف في اليوم العالمي للصحافة وحرية التعبير... هل لك أن تشرحين لنا أكثر؟.


السيدة مدني : مشكل السكن هو "كوشمار" حياته لم يستطع أن يتحصل على سكن رغم انه صحفي وعائلته تبعد عنه بمائة وخمسين كلم، .ورغم معارفه وعلاقاته مع كبار المسئولين، فهو لم يكن ليستغل ذلك لمصالحه الشخصية، فضّل أن يكون له ملف للحصول على سكن ككل المواطنين خاصة في إطار مؤسسة عدل البيع عن طريق الإيجار والتي كانت موجهة خاصة للطبقة المتوسطة، لكنه بعد الموافقة الرسمية يجيبونه انه لن يستطيع الحصول على ذلك لان زوجته متحصله على سكن من غرفتين على بعد 150 كلم من مقر عمله وهو السكن الذي تحصلت عليه في إطار عملي بالمستشفى كسكن وظيفي، المهم هذه النقطة بالذات أثرت على حياتنا كثيرا وأثرت عليه خاصة وعلى صحته ومنذ ذلك الحين وهو في دوامة مع المرض..

هل كان لهاته المعاناة تأثير معنوي أو مهني؟.

السيدة مدني : طبعا تأثر صحيا كما قلت ومهنيا، حيث أصبح كثير التفكير والغياب عن عمله لظروف صحية. إن كل همه أن يجمعنا سكن واحد ويخرج من تلك الغرفة الموجودة في إقامة الصحفيين بسيدي فرج، والتي كان يسكنها الصحفيون لظروف أمنية آنذاك.
.لكن بقي الحال كما هو حتى وافته المنية. كان يعمل كل ما في وسعه ليعوضنا أنا وأطفاله عن غيابه من اجل العمل، كان يحب أولاده كثيرا ويعرف أيضا انه ترك لي مسؤولية تربيتهم مجبرا كان دائما يقول لي" اسمحي لي على بالي أعييتك".
لذلك لم يعش في استقرار أسري ولم يكن له وقت كثير لنفسه أو لأسرته لان الصحفيين يعملون حتى في أيام العطل.
إقامته في سيدي فرج أثرت على صحته كثيرا، كان مصابا بداء الربو لا يحتمل الرطوبة الموجودة هناك، فقد مات وفي يده" بخاخة فونتولين"، رحمك الله يا شوقي أكيد انك تألمت كثيرا في هذه اللحظات، ليتني كنت معك..

من الجانب المهني نريد أن نطلع ولو قليلا على الجانب الشخصي للمرحوم، كيف كان شوقي " الأب " و" الزوج"؟

السيدة مدني : ظروفنا كزوجين كانت صعبة منذ بداية حياتنا مع بعض، لكننا كنا دائما بالمرصاد لها واجهناها بكل قوة وبقينا مع بعض لأخر لحظة.
تعارفنا كان بالجامعة كنا طلبة هو بمعهد الأدب العربي وأنا بمعهد الصيدلة شاءت الظروف أن نلتقي في حفل لعيد مجلة الوحدة مجلة الشباب آنذاك كل الطلبة كانوا مدعوين، حياتنا كانت مليئة بالمفاجآت السارة أحيانا ومحزنة أحيانا أخرى، والتقينا بعدها مرة أثناء مشاهدة مسرحية ومرة في الجامعة.
كانت أياما جميلة وبسيطة، وهكذا عشنا مع بعض أكثر من 20 سنة، إلى أن زاره اجله في يوم 14 أكتوبر 2009 بتلك الغرفة المشؤومه والتي لم يزرها منذ سنتين، وكأن القدر أعطاه موعدا هناك..

هل نصح " شوقي " يوما نزيه أو ريم أن يكونوا مثله تماما في ميدان "الإعلام"؟ .

السيدة مدني : بالعكس كان يقول لنزيه "دير وش تحب إلا الصحافة" لأنها لم ترقى إلى المستوى المطلوب في بلدنا..


ما هي الكلمة أو المثل الذي كان يردده كثيرا شوقي... الأكلة والموسيقى المفضلة لديه.. الأغنية التي كان يهديها دائما لك؟

السيدة مدني : أقول لك سر... كان يردد دائما "وطني وطني ليس فيه سكني" التي حفظناها في الابتدائي، كان يحب أكلة الكسكسى جدا كل جمعة لازم "الطعام"، أغنية كان يحبها ويرددها أمامي للشاب حسني لكني لن أقول عنوانها... كان يحب أم كلثوم كثيرا خاصة أغنية الأطلال وهذه ليلتي...

في إحدى الحوارات التي أجريت معه، كان أجاب عن سؤال يتعلق "بعدد الوردات التي أهداها لك" فكان جوابه:"لا أتذكر ... أظن أنني قدمت لها وردة قبل الزواج واثنين أثناء الزواج..." هل لك أن تجيبينا عن نفس السؤال؟ ..

السيدة مدني : سؤالك عن الورود جميل جدا... في وقتنا كان كل شيء بسيطا وردة جميلة كانت لها معاني كثيرة.
أتذكر ذلك اليوم جيدا يوم 5 أكتوبر سنة 1988 يوم الاحتجاجات في ذلك اليوم كان شوقي بالخدمة العسكرية بالبليدة وكنت أنا بمنزل عائلتي وهذا اليوم يصادف عيد ميلادي رغم كل ما جرى في ذلك اليوم، إلا أن شوقي جاء إلى بيتنا حاملا وردة جميلة وطرطة عيد الميلاد، لم يمكث كثيرا لأنه كان لابد أن يلتحق بالثكنة بسرعة، ولم يكن هناك لا هاتف محمول ولا مسج.
بعد الزواج لم يبخل أبدا شوقي أن يهديني ورودا في كل مناسبة، لأنه كان يعرف أنني أحبها جدا،
أخر عيد ميلادي بعث لي بمسج انقله كما هو "أهديك كل ما املك قلبي وحياتي تمنياتي بالصحة والسعادة وربي يحفظك لينا".

كلمة أخيرة ؟

السيدة مدني : رحمك الله يا شوقي وأسكنك فسيح الجنان..



تعتبر صناعة النسيج من أقدم الحرف التقليدية بالجزائر، خاصة بالجنوب الجزائري الذي تألق في هذا المجال نظرا لخصوصية المنطقة الطبيعية وكذا توفر المادة الأولية المتمثلة في الصوف ووبر الأنعام، السيد حداد بوجمعة من رواد صناعة الحنبل بالجنوب الغربي الجزائري التقته ''المساء'' على هامش صالون الاتصال الوطني الذي احتضنته ولاية بشار، حيث تحدث إلينا عن سر هذه الصنعة وارتباطه الوجداني بها.

حول هذه الحرفة يقول محدثنا ''صناعة الحنبل والزرابي من الصناعات التقليدية التي ورثناها عن الأجداد، إنها إرث يجب المحافظة عليه، فأنا شخصيا أمضيت عدة سنوات بين المنسج وخيوط الصوف، وأجد سعادة كبيرة عندما أكمل عملية النسيج التي اعتبرها فنا قائما بذاته، كما أنني أهتم بهذه الحرفة وأمارسها رفقة زوجتي، ونحن بدورنا قمنا بتعليمها لأشخاص آخرين من خارج العائلة، كما تعكف الزوجة حاليا على تعليمها لزوجات أبنائنا حتى تبقى هذه الحرفة متوارثة عبر الأجيال''.

وحول أنواع الحنابل والزرابي التي يصنعها قال السيد بوجمعة ''هناك عدة أنواع من الزرابي، منها الزربية البربرية أو القبائلية، وهي من أجمل الأنواع وأكثرها طلبا في الجنوب الغربي الجزائري نظرا لخاصيتها الجمالية، وتتسم الزاربي التي تصنع هنا ببساطتها وجمال أشكالها الزخرفية، وهي غالبا ما تصنع بواسطة الغرز المنبسطة، وتزينها أشرطة ملونة عرضية وواضحة''.

ويضيف: الحنبل القبائلي يمتاز بألوانه الزاهية وهو الحنبل الذي اختص في صناعته، كونه زاهي الألوان، حيث نقوم بمزج الأحمر، والأخضر، والأصفر ، والبني والأسود في أشكال وخيوط متناهية الروعة، فيها الهندسية المستقيمة، وتتعاقب فيه السبائب الملفوفة والمنسوجة ذات العرض المختلف، الشيء الذي يجعله شبيها بالزرابي البربرية، حيث يمكن للعائلات ذات الدخل المتوسط أن تستفيد منه في الديكور داخل المنازل خاصة أن الحنبل يمكن أن يستعمل كفراش، وغطاء وزينة أيضا فوق الأفرشة في بيت الضيافة وللاستعمال اليومي أيضا''.

وعن المواد الأولية وطريقة تحضير الحنبل قال السيد بوجمعة ''نحن نشتري المادة الأولية المتمثلة في الصوف من تلمسان، أو نقوم بشرائها من عند الموالين، ثم نغسل الصوف ونجففه لنبدأ عملية ''التقرديش'' التي تعتبر أساسية في هذه الحرفة، حيث نقوم بطويه وتركيبه على ''المرمة'' أو ''المنسج'' ثم تبدأ عملية العقد، وهنا أود التذكير بأن الصوف سواء كانت خاما بلونها الأبيض الدافئ أو السكري الجذاب، أو مصبوغة بالألوان الطبيعية أو الكيماوية فإنها ستنصهر كي تعطينا زرابي وحنابل تجسد تحفا تعشقها العين''.

وعن آلية الصباغة قال محدثنا ''قديما كانت المواد الطبيعية النباتية مثل قشرة شجر التفاح أو الرمان أو الزعفران أو المواد المعدنية مثل سولفات الحديد تستعمل في صباغة الصوف، أما في الوقت الحاضر نادرا ما تستعمل هذه المواد الطبيعية خاصة أن تلك الأصباغ الطبيعية لا تغير خصائص الصوف الذي يحتفظ على ألوان زاهية لا تبهت ولا تتلف مع مر السنين''.
وحول الوقت المستهلك لتحضير صالون كامل بالحنبل وسعره أيضا قال محدثنا ''احتاج ليومين كاملين ليكون الصالون بستائره جاهزا، إلا أن الصالون التقليدي باهظ الثمن بسبب غلاء المواد الأولية، أما البسيط منه فلا يتجاوز سعره 13000دج''.

وحول طموحه وآماله قال ''لقد كان أجدادنا يعيشون ويعتمدون على ما تصنع أيديهم بداية من النعال حتى نوعية اللباس الذي ارتدوه، وأنا شخصيا أرى أن مستقبل الوطن الاقتصادي يكمن في المحافظة على الفلاحة والصناعات التقليدية، لذا أتمنى أن تنال هذه الحرفة حظها من الاهتمام من طرف المسؤولين خاصة أن الطلب عليها كبير من طرف السياح الأجانب، كما أتمنى أن ننال فرصة المشاركة في العديد من المعارض للتعريف أكثر بهذا الإرث''.

أحاورته/حلام محي الدين، منشور بجريدة المساء المساء : 27 - 06 - 2010

الأصل أن الشخص هو الذي يختار حرفة ما تعجبه فيتعلمها ويبدع فيها، إلا أن ما حدث مع الحرفي رشيد شافع وهو أقدم حرفي في صناعة الآلات الموسيقية، هو أن الحرفة هي التي اختارته، لأنه لم يكن يحبها ولكنه بعد أن احتك بها وتعلم تقنياتها وأسرارها أدرك أنها عندما اختارته كانت تعرف أنه سيبدع فيها، ويتحول من خلالها إلى مرجع لكل فنان يبحث عن اللحن الصحيح والأصيل الخالي من العيوب، "المساء" التقته وأجرت معه هذا الحوار.
- بداية سيد شافع قلت إن الهواية هي التي اختارتك كيف ذلك؟
* أذكر أن أخواي كانا يملكان ورشة لصناعة الآلات الموسيقية عام 1953، حينها كان عمري 14 سنة وكنت أدرس وألقي نظرة على ما يقومان بإنجازه، ولم يكن لدي أي ميول لتعلم صنع الآلة الموسيقية، وأذكر أنه بعد اندلاع الثورة توقفا عن صنع هذه الآلات وحولا حرفتهما لصنع الأثاث المنزلي، ولكن بعد الاستقلال عمت الفرحة شوارع العاصمة وكانت الحاجة ملحة لإنجاز آلات موسيقية للتعبير عن الفرحة، في تلك الأثناء وجدت نفسي أتعلم هذه الحرفة من غير رغبة، كونها حرفة صعبة وتتطلب ذكاء وصبرا كبيرين، كما تتطلب دقة لا متناهية، لذا أقول لم أختر هذه الحرفة وإنما هي من اختارتني، واليوم لدي خبرة 47 سنة، وتحول ذلك الكره إلى عشق وحب كبير لهذه الآلات التي أصنعها بكل ابداع.
- تتحدث عن الآلات الموسيقية، ماهي بالتحديد الآلات التي تصنعها؟
* أصنع بالتحديد الآلات الموسيقية الوترية، مثل الموندول والقيثارة المندول والبونجو والموندولين والعود، وآلة الموندولين بقبضتين، وأجمع بين آلة الموندول والقيثارة في آلة واحدة، ولكل آلة من هذه الآلات خصوصياتها وطريقة إعدادها التي تختلف عن الأخرى، كيف لا ولكل نوع ميزته سواء من حيث الشكل أو اللحن.
- ماهي المادة الأولية التي تعتمد عليها لصنع هذه الآلات؟
* كل الأنواع التي ذكرتها تصنع باليد، وتعد المادة الأساسية في حرفتنا هي الخشب، ولكن من النوع الممتاز، وينبغي أن أعلمكم بأن خشب تزيين الآلة يختلف عن الخشب الذي تصنع به، فمثلا للتزيين نعتمد على خشب الأكاجو أو خشب الأبانوس، أما خشب الآلة فيكون إما من شجر الصنوبر أو التوت أو الأرز، وعلى العموم نعتمد على هذه الأنواع من الخشب كونها تتميز بالليونة والقسوة، كما أن للخشب أهمية كبيرة في إعطاء جمالية وقوة لصوت الآلة، وطبعا كل هذا يتطلب أن يكون الحرفي ذكيا ودقيقا في الاختيار حتى يكون عمله متقنا وصحيحا.

- من هم الفنانون الذين يستخدمون آلاتك الوترية؟
* لشدة الإتقان والدقة التي تتميز بها آلاتي لم أكلف نفسي عناء البحث عن زبون، لأن الزبائن من الفنانين بمجرد أن يشاهدوا إحدى آلاتي عند فنان ما يسارعون للبحث عني حتى أعد لهم آلة تميزهم عن غيرهم، فمثلا الفنان تاكفاريناس جمعت له بين آلتين وتريتين بناء على طلبه، وقد ذهل كل من رآها، والفنان مراد جعفري رغب في أن تحمل آلته اسمه الخاص فنقشت له الأحرف الأولى اسمه، أما ?روابي فجمعت له بين القيثارة والمندول، وغيرهم كثيرون مثل عمر الزاهي والفنان القدير شاعوا ومعطوب الوناس رحمه الله وغيرهم كثيرون.
- ما رأيك في الآلات الوترية التي تباع اليوم؟
* يكفي أن أقول إنها مليئة بالعيوب، فبنظرة واحدة لآلة يمكنني استخراج تلك العيوب التي لا يمكن لغير الحرفي أو الفنان معرفتها، فلا شيء يضاهي حرفة اليد، وأروي لكم قصة وقعت لي، حيث رغبت في الاطلاع على ما يبدعه السوريون في مجال الآلة الوترية، فاقتنيت آلة وفككتها حتى أطلع عليها، فوجدتها عبارة عن مجموعة من الأخطاء، وأذكر أيضا أنه في فرنسا أخذ بعض الحرفيين آلتي الوترية وفككوها للبحث عن السر وراء إتقانها وجمال ألحانها، وبعد أن أعادوا تركيبها لم يحصلوا على نفس اللحن، وبالتالي صعب عليهم تقليدها، لذا أبلغكم ومن دون غرور أني أملك زبائن من خارج الوطن، من كندا انجلترا وفرنسا، والسر هو الجودة والإتقان النابع من حب الحرفة.
- كيف تعرف عيوب الآلة الوترية؟
* ببساطة أستخرج عيوبها بالنظر إليها، فمن خلال مظهرها الخارجي يتكون لدي الانطباع الأول حولها، بعدها أتيقن من نظرتي من خلال مخارج النوتات الموسيقة، فهي الحكم الفاصل، فالحرفي في الآلة الموسيقية ينبغي أن يكون فنانا أيضا.
- هل هناك إقبال على تعلم هذه الحرفة من الشباب؟
* شباب اليوم لا يملكون الصبر المطلوب، كما أن الآلة قد تعدها وعند تجربتها لا تحصل على اللحن المطلوب، فهذا يعني أنه ينبغي إعادة صنعها، لذا أقول إنها حرفة صعبة ودقيقة وتتطلب صبرا وذكاء كبيرين، وربما هو السبب الذي جعل الإقبال على تعلمها شحيحا، وعني شخصيا أجتهد لتعليمها لابني على الأقل لحمايتها من الاندثار.
- ما الذي أضافته هذه الحرفة لعمي رشيد؟
* جعلتني محبوبا بين الناس ومشهورا بين الفنانين، كيف لا والعمل المتقن هو الذي يتحدث عن صاحبه، ويكفيني أني أحظى باحترام وثقة زبائني.

حاوره رشيدة بلال/ نقلا عن جريدة المساء: 10 - 11 - 2009

رسام ونحات عالمي، تبدع أنامله في اللعب بالريشة، وساعداه القويان في صنع الحرف والمنحوتات، هو فنان وإنسان قبل كل شيء، بعدما عاش من حياته ما أثر فيه وفي فنه، جعل من النحت وسيلة للتعبير الفني والفكري والفلسفي، وأصبحت منحوتاته المعروضة هنا وهناك تشكل سرورا للعين الناظرة إليها.

ولد الفنان بوكرش محمد ببورويس السرس، بولاية الكاف بالجمهورية التونسية سنة 1951، وسجل بالجلفة سنة 1954 أيام اندلاع الثورة الجزائرية، والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا ولد بتونس وهو جزائري الأصل من الأم والأب؟ عن هذه القصة يحدثنا الفنان بوكرش قائلا: “جدي سليمان الحيلة أو الحرفة كما يلقبونه أبناء عرشه “أولاد سيدي بن علية”، كان حرفيا مختصا في صناعة الأسلحة النارية أي نحات، ومنجزاته منحوتات وظيفية، كانت البداية بالأواني الخشبية إلى تصميم البندقيات، قضى معظم أوقاته يرافق الأمير عبد القادر في الحل والترحال مع العاصمة المتنقلة “الزمالة”، ويوم نفي الأمير عبد القادر، وُجد في قائمة المقربين منه وعليه أصبح مرشحا للقتل، وقد علم بذلك من أحد أعيان المنطقة، ومن عائلة لحرش، فكان هذا سبب سفره إلى تونس.

وبينما كان الفنان يزاول دراسته الابتدائية بالسرس ورأس الطابية بالعاصمة التونسية قرب باردو، أين توجد مقرات جبهة التحرير الوطنية ومقر الكشافة الجزائرية التي انضم إلى أشبالها، فتهيّأ ليكون وقود الثورة الجزائرية، وذلك سنة 1960 إلى 1962، اكتشفه معلمه بالمدرسة التونسية الابتدائية رأس الطابية، بعدما رآه من رسوم في كراس المحفوظات، الذي رسم فيه موضوعا لكل قصيدة بما يتماشى والتعبير فيها، فكلفه منذ ذلك اليوم برسم صورة مكبرة على السبورة، تصور نص القراءة المبرمج كل صباح، وأصبح للطفل بوكرش مهام كبيرة على عاتقه وإحساس بالمسؤولية، فأصبح ينهض باكرا للوصول إلى المدرسة قبل دخول زملائه بساعة ليرسم الموضوع ويلونه.

كان هذا التشجيع والتقدير من معلم الابتدائية داعما وحافزا نمى الموهبة التي فجرتها فيما بعد الصور الموجودة على أغلفة المجلات وداخلها لأبطال الجزائر وعلمائها، كالأمير عبد القادر على حصانه، والإمام بن باديس وممثلي الجزائر بالحكومة المؤقتة، ومن بين الوجوه التي كان يرسمها دائما الأمير عبد القادر، ابن باديس، الشيخ العربي التبسي، الشيخ بشير الإبراهيمي وخاصة الرئيس السابق بن بلة، حيث كان الفنان الصغير ولوعا بهم وبأخبار الثورة وبالجزائر المستقلة.

وبعد الاستقلال مباشرة دخلت العائلة إلى ولاية برج بوعريرج، ونزلت بعين تاغروت، أين التحق محمد بوكرش بالمدرسة الابتدائية الجزائرية، وفي هذه المرة أيضا اكتشفه أستاذ اللغة العربية، الأستاذ المرحوم لطرش العيد، المكلف بالجزائريين بفرنسا أيام ثورة التحرير وهو أحد خريجي جامع الزيتونة، ومكلف من طرف جمعية العلماء المسلمين للقيام بالتحسيس والالتفاف حول الثورة المجيدة ثورة أول نوفمبر، التحق بالجزائر أيضا لتجمعه الأقدار بالفنان الصغير بمدرسة عين تاغروت ويكتشفه كرسام ونحات، وفي الدراسة الثانوية التقى بالمخرج الفرنسي شار بونال كأستاذ رسم بثانوية محمد قرواني، تعلم معه فنون الديكور والماكياج وكل ما هو سينوغرافي، زيادة على دراسة المنظور والرسم به، وكان أول من طلب منه الالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة فلبى طلبه دون أن يفهم ذلك، لأنها كانت لا تعنيه بقدر شهادة البكالوريا، ولما شاءت الأقدار أن يتوفى أبوه، توقف عن الدراسة والتحق بمهنة التعليم لمدة سنتين، ثم التحق بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة ليتخرج منها سنة 1979، بالشهادة الوطنية للفنون الجميلة اختصاص نحت بدرجة امتياز، ويتحصل على الجائزة الوطنية الأولى في النحت في نفس السنة بمسابقة أجرتها وزارة المجاهدين، وبعد عام من حصوله على الشهادة أصبح محمد بوكرش أستاذا لمادة النحت بنفس المدرسة 1980/1982.

وهو اليوم فنان يجمع بين النحت والرسم والكتابة والتأليف والتدريس، يشغل منصب أستاذ كاتب ومحاضر، ينشر بمجلات عديدة كالفوانيس، المثقف، تحياتي، أصوات الشمال ومجلة تمارين، ينتج برامج فنية عامة وينشط بالإذاعة الثقافية الجزائرية منذ سنة 2000، وينتج وينشط بالفضائية الثالثة الجزائرية ركن لوحة وفنان حصة “خليكم معنا”، ويبقى التعليم من أحب الأعمال لديه، فهو أستاذ في مادة التربية التشكيلية بالمدينة التي يقطن بها حاليا، مدينة خميستي بولاية تيبازة منذ سنة 1984 إلى يومنا هذا، حاز العديد من الجوائز والميداليات في المهرجانات الوطنية والعالمية، شارك و لا يزال يشارك في معظم التظاهرات الثقافية الفكرية منذ 1982 إلى يومنا هذا، وله من المؤلفات مخطوط موسوم بسعادة الصفر وهو دراسة كيفيات اختراع الأرقام المغاربية العربية الغبارية ورسمها الصحيح، ومخطوط آخر عبارة عن مقالات نشرت بمجلات المواقع السياسية والثقافية على الشبكة العنكبوتية من مقالات ونقد ونقد النقد والتعريف ببعض الشخصيات الفنية التشكيلية، كما له رصيد هائل من حوارات ولقاءات أجراها مع شعراء وكتاب وفنانين تشكيليين، وفنانين موسيقيين لفائدة الإذاعة الثقافية.

تبقى أعمال الفنان النحتية والرسومات شاهدة من شواهد الحاضر الجزائري للمستقبل، في شوارعها وفي حدائقها وساحاتها العمومية وفي التماثيل والمنحوتات المجسدة لتاريخ هذه الأمة وأعمال فنية كثيرة تزين المتاحف الوطنية، لتساهم في الجمال العمراني الذي لا يكون إلا بجمال مثل هذه الصور التي يجسدها الفنان محمد بوكرش
نقلا عن موقع دار الزاوية

حاوره/ محمد ياسين رحمة

للإبداع مرتزقته أيضا، أولئك الذين يمارسون أقبح أشكال الإرهاب في حق الفكر والخيال، مرتزقة مُزمنون صاروا أعلام صنعتهم الرّدة والخيانة لتنفيذ مُخططات "الديمقراطية" التي تحكم فيها الأقلية المُرتبطة بأجندات استعمارية العموم الساحقة من الجماهير.. هي بعض مما أفضى به إلينا في هذا الحوار، الفنان الجزائري " محمد بوكرش" الذي حملته أفكاره الإنسانية مُجسّدة في لوحات أو منحوتات إلى العالمية، وقادته نضالاته بالقلم إلى "الفتوحات المُشاكسة" حيث للفنان أدوار مُقدّسة هي أسمى من أن تكون أدوار ماسح الأحذية.

-ما معنى أن تكون كاتبا أو شاعرا أو فنانا تشكيليا في الجزائر؟

بين الأمس واليوم فرق كبير جدا إذا ما نظرنا إلى التركيبة التربوية والامتداد الحضاري.. كنا الفاتحين، كنا من فتح الأندلس ومهّدنا الرقعة التي رُسم عليها الجمال الإنساني، هذا الذي شهد به لنا العدو قبل الصديق. كنا انطلقنا من مقاعد الدراسة البارحة فقط للالتحاق بثورة التحرير الكبرى 1954/1962 ، انطلقنا بأقلام يشهد بها أيضا أدب وأدباء وفنانون ما قبل الاستقلال.. إذ قيل:( يا محمد مبروك عليك الجزائر رجعت ليك)، وبالتالي تجد أن التركيز كان يعني المحمدية أي الإسلام..
أطرح السؤال الآن ماذا قال "أمين الزاوي" و"وسيني الأعرج"...؟، قبل أن تسمع الإجابة يندى جبينك.. وبالأحرى الكاتب اليوم أو الفنان هو أن تكون ماسح أحذية و.. في جلد واحد منهما ..أعزكم الله.


-هل ترى أن السلطة جنت على المثقف أم أن المثقف هو الجاني في حق نفسه؟

السلطة في نظرنا لا تكون إلا بأغلبية يقرأ الواحد فيها الآخر، ويقرأ البعض منها البعض الآخر وبتفاضل ما يتم ذلك..
وعليه إذا حققنا نجاحا بالأندلس يكون قد كان بأغلبية وقلب واحد نبضه على إيقاع جمع كل جميل وحقق نسبة ..
من الجمال حول نواة ما يسمى بالجمال، لون ورائحة تستدرجك للتمتع باللب فيما إذا كان المثل برتقالة.. خسرناها الأندلس وطُردنا شر طرد يوم خان الشكل المضمون..
من 1962 إلى اليوم خسرنا جزائر 1954 / 1962 الأخوة المحبة التآزر والبيت الواحد الذي جمعنا تحت سقف الاستقلال1962، خسرنا الخط والقلم السقف الذي كانت أعمدته الوطن، الله أكبر والشهادة...
أعمدة سقفنا اليوم انهارت بانهيار خيوط التسليح والتخطيط الذي نجح فيه الاستدمار والمستدمر بنوعية من الفنانين والكتاب وحققوا ما لم ينجحوا فيه مدة القرن والنصف ونحن تحت إرهاب هذه "النوعية المُرتزقة" وجبروتها المباشر..
نعم كان لنا كتاب وفنانون رغم قلة وسائل الاتصال والتواصل ولنا القوة من الضعف. .ما لم يكن اليوم والضعف كله من زيغ وزيف الأقلام رغم توفّّر وسائل الاتصال، وبالتالي كلمة مثقف كبيرة ومتبرئة منهم كتاب لعقوا صحون الغير ومسحوا أحذية العار والدمار الإنساني.. استحي محل اللاهثين ليلتقطوا صورا مع واحد منهم، أعلام صنعتهم الردة والخيانة.. لأقول: المثقف والثقافة أصبحت عملة نادرة نسمعها ولا نلمسها إلا ما رحم ربكم.


-كتّاب كسروا أقلامهم وشعراء اعتزلوا الشعر في الجزائر.. وهناك وزارة ثقافة واتحاد كتاب ومهرجانات للشعر والأدب، كيف تفسّر الأمر؟

خيانة أخرى تضاف لموسوعة الخيانات، إذ قيل : علّم بالقلمّ علم الإنسان ما لم يعلم، وكلمة علم للتمييز والتلقين ورسم الأمور... أنت مميز به وبخطك وباللسان، على ذلك أنت شاعر بكسر القلم كسرت قريبك من خلال كسر نفسك والاعتزال من أخيك هو اعتزالك الشعر واعتزال الأرحام...وهي أثمن خدمة نقدمها لأعداء الأمة ونزيد بها لأنفسنا غمة...


كيف تقرأ واقع جغرافية التشكيل في الجزائر؟

جميل سؤالك هذا والإشارة إلى جغرافية التشكيل التي في نظرنا لا تكون إلا بتربية تشكيلية حقيقية تبني الإنسان وتكوّنه..
أقول : أن التربية التشكيلية مشروع مستقبل كل أمة تريد لنفسها موقع المنافس وليس موقع الرهينة... هي تحصيل دراستنا من الابتدائي إلى التخرّج.. على ضوء احتياجاتنا التي لا تترك واحدا منا بلا عمل ومستقبل بمجرد تخرجه..
والفن التشكيلي ما هو إلا ذاك التعبير الفني المجازي لتأليفة الألوان الرمزية والإشارة بها للمادة الحقيقية الحية التي ينبغي الاستثمار فيها، ولا نقصد بهذا غير الإنسان والإنسانية فيه حتى تكون الأبعاد الإنسانية هي موضع الاهتمام ولا تُترك في مهب الرياح والتيارات الخبيثة..
الكل يعرف أن قوة اليد والقبضة لا تكون إلا بكامل الأصابع عل اختلاف مواقعها وقدراتها ليكون للشد والمد معنى.. متى كانت لنا أصابع؟ وإذا كانت قد بُترت أجزاء منها، كيف لي أن أرسم لك جغرافيا؟ فما بالك بقراءتها...اسأل وقل: كيف تبتلعها...؟ لأجيب: من الصعب جدا والواقع أبلغ تعبير... وعليه أقول أن ما تبقى من اللوحة والفنان في واد والواقع بمستنقع...

"- الثورات العربية" كشفت عن أقبح أوجه الفساد والنفاق سياسيا واقتصاديا.. برأيك هل أوجه المبدعين اقل قبحا ونفاقا؟

أحيلك على موضوعي الأخير، ( أمين الزاوي ... العلمانية ( ...) أم العلمـ ( .. ) نية) / تكعيبية يكتبها بوكرش محمد، ومما جاء " هم سبب الرداءة ومشجع الرذيلة أبواق، مزامير وطبول الأنظمة التي تتساقط رؤوسها اليوم بالتتالي...متى تسقط الرؤوس الحقيقية بيوت الداء وقلة الحياء..؟
فرائسهم اليوم ترتعد أكثر من غيرهم أكثر من فرائس صهاينة اليهود أكثر من الصهيونية الاسرائيليبة والأمريكية الأروبية معا..ينادون بديمقراطيعة عجيبة تقصي الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية"

-ألا تعتقد أن زمرة المبدعين هم ضمير الشعوب، غابوا عن موجات التغيير بأدواتهم.. تراهم كانوا وهميين أو أنانيين أو هم انهزاميون؟

بالطبع هم ضمير الأمم وتأكد ذلك في ما أعرفه عن الكاتب والفنان العربي وأخص بالذكر تونس ومصر حركتهم الثورية ثمرة تخمّر الكثير من رواسب ما أفرزته أقلام إنسانية وحكم جادة على اختلاف الأجناس والأعراق، زيادة على ما جاء به الدستور الإسلامي.. والأدل على ذلك، الأديب إبراهيم صنع الله يوم صفع كتاب مصر وساستها برفضه جائزة الرئاسة أمام الملأ.. يوم كان المعظم سُجّدا ركّعا أمام فرعونها المنهار.. أين اليوم فرعون وأين الأديب إبراهيم صنع الله؟
تصور لو كان منه على عدد البلدان العربية أربعة فقط في كل دولة هل يستمر الفساد؟ بالطبع يكون محدود جدا...
من المؤكد أن من يصنع الأنظمة الفاسدة إعلام فاسد وأقلام أفسد.. وعددهم في الجزائر لا يقل عن الأعداد التي تسببت في انهيار هذه الأنظمة المذكورة والدور على الجزائر لا مفر منه... هم نيام على بركان لا قدر الله إذا لم يكن له متنفسا عاجلا، فانفجاره سيأتي عل كل ما هو يابس ويتضرر منه الأخضر كذلك...


-جمعت بين الإبداع بالقلم والريشة والأزميل.. أيّهم اقرب إليك؟

في الوقت الحاضر أختار أسرعهم نتيجة وإثارة وأقربهم للمستهلك ولا أعاكس من قال: بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم...


ما علاقتك بجمهورك خاصة انك حاضر عربيا وعالميا، لكن النخبة الجزائرية هي التي تعرف محمد بوكرش؟

عرفني المثقف الجزائري وليست النخبة (... ) والبرانيس.. والكتب المزوقة والأعمال الفنية التي كرمت بها لدليل على ذلك، مثل ما عرفني المثقف في العالم العربي وصلتني كتبهم مشكورين إلى بيتي موقعة هي الأخرى وكرمت ببلدانهم غيابيا، وآخر ما وصلني من بغداد مشكورة على ذلك شهادة ( درع بغداد النموذجي للابداع... 2/8/2011).


-ما الذي كنت تطمح إليه ولم تستطع تحقيقه ولماذا؟

كنت أطمح وأتمنى لبلدي أنظمة تعمل عل تحالف اختلاف الشعب وليس على تحالف عصابات ضدهم وضد رئيسهم.. هذا الذي صاح وأعلن الضرر بعظم لسانه: أرفع رأسك يا با...راني – إنني- فوق كرسي جمر..

-هل تحلم أو هل تمارس الحلم؟ وهل هناك كابوس يسكنك؟

أبدأ من الأخير وهو الكابوس الذي أصبح يكفر بسهل ممتنع أحلامي..


-من أين انطلق محمد بوكرش ليكون الفنان العالمي والكاتب والصحفي؟

انطلقت من رائحة عرق أجدادي رائحة عرقي وعرقي..


- لو حضر الصلصال فأي مبدع تصنع له تمثالا ولماذا؟
-
من مصر السيد قطب ومن الجزائر مالك بن نبي لأجمع بين الدين والدنيا..


- كتبت طويلا وكثيرا ولكننا لم نقرأ لك "شيئا" بين دفتين، لماذا؟
-
بدأت الكتابة متأخرا وتزامنت مع تكنولوجيا النشر والتواصل السريع وبالتالي كل ما هو بين الدفات يصل متأخرا، وبالطبع نتائجه تتأخر أكثر.. والبقاء بطبيعة الأشياء للأصلح، إذا كان في كتاباتي ما يستحق الخلود والبقاء سيضمن ذلك بنفسه بالرقمية أو بآليات أخرى.


-لو كنت وزيرا للثقافة، ما هو برنامجك جزائريا وعربيا وعالميا؟

ما دامت "إسرائيل" دولة واعترف بها الجميع أشك أن أكون أنا، أشك أن أكون في بيتي فما بالك بوزير..


ما هي رسالتك إلى العرب؟

فلسطين تكون إن شاء الله بزوال الأسر الحاكمة والحدود الوهمية و إمارات الأكاذيب العربية... بهذا نرسم حدودا لطموحات الصهيونية الأمريكية وانقراضها نهائيا بعالمنا الإسلامي والعربي. دون ذلك مازال الانحدار متواصل...

يسعى الشاعر الفلسطيني زكريا محمد إلى إعادة الأمثال الجاهلية إلى سياقها التاريخي وأصلها الديني مرجحا أنها تنتمي إلى الكهنة قبل أن تتداول في الحياة وتكتسب شهرتها داعيا إلى بذل الجهود لفهم مغزى الأمثال التي تحولت إلى ألغاز بعد انقطاعها عن هذا الأصل.

ويقول إن تجاهل الأساس الديني للأمثال الجاهلية نقلها من ملكية كهنة المعابد حيث بيت الأساطير وطقوس العبادات إلى ملكية كهنة اللغة الذين "حولوا كل مشكلة تعرض لهم بسببها (الأمثال) إلى نكتة لغوية" وإن هذا يفقد الباحث "مفتاحا مهما من مفاتيح أديان العرب قبل الإسلام" إضافة إلى طقوس الديانة في الجاهلية.

ويشدد في كتابه "ذات النحيين.. الأمثال الجاهلية بين الطقس والأسطورة" على أن المثل هو روح الأسطورة وأنه ليس من اختراع لغويين مهرة بل كهنة ابتكروا الأمثال فأنقذوا الأساطير من الضياع ثم ضمنت الأسطورة الازدهار والانتشار للأمثال.

ويقع الكتاب في 447 صفحة كبيرة القطع وأصدرته (الأهلية للنشر والتوزيع) في عمان. والكتاب جزء من اهتمام المؤلف الذي قدم من قبل كتابا ذا صلة بقضية الدين والأساطير في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام بعنوان "عبادة إيزيس وأوزيريس في مكة الجاهلية".

ويقول المؤلف إن الأسطورة لا تقدم نفسها كأسطورة بل كتاريخ عبر سرد واقعي وليس أسطوريا.ومن الأمثال التي تضمنها الكتاب "رماه بثالثة الأثافي" وهي قطعة ناتئة من الجبل يوضع فوقها القدر.

ويرى زكريا محمد أن التفسير السائد "غير المقنع بالمرة" والذي اطمأن إليه اللغويون يعني "رماه بأعظم الدواهي" ولكنه يذهب في اتجاه آخر قائلا إن التفسير اللغوي قاصر إذ لم يدرك اللغويون "المعنى الميثولوجي للمثل" وإن ثالثة الأثافي هي الحد الثالث من كل ثالوث.

ويقول إن الثالوث المكي المعروف باللات والعزى ومناة "قدر كونية يقف عليها الكون. لكن الأثفية الثالثة في هذا القدر أي مناة قدر ترمز للموت والهلاك. وجذر (مني) الذي هو أصل كلمة مناة يعني الموت" الذي هو المنية.

ويستشهد ببيت من الشعر "يؤكد" فيه علقمة بن عبدة أن ثالثة الأثافي ترمز للموت لا للضخامة اذ يقول "بل كل قوم وإن عزوا وإن كثروا-عريفهم بأثافي الشر مرجوم" بمعنى أن الموت نهاية الجميع مهما يكن علو شأنهم.

ويخلص المؤلف إلى أن للأمثال قصصا عنقودية يؤدي بعضها إلى البعض الآخر ولهذا قيلت جملة "فصارت مثلا" والتي تعني أن جملة ما ذات منشأ ديني أو طقسي أو أسطوري تمر بمراحل تاريخية وخبرات متراكمة إلى أن تأخذ شكلها النهائي ثم تحتل موضعها في كتب الأدب.

ويضم الكتاب ملحقا عنوانه (الطائر المخمور) وهو فصل أو كتاب مستقل يقع في 126 صفحة ويتناول فيه مصائر بعض "الآلهة" التي كان لها أصنام في مكة الجاهلية ومنها "مجاور الريح" على جبل الصفا و"مطعم الطير" على جبل المروة قائلا إنهما يوجزان ثنائية ميثولوجية هي أسطورة الخمر والخبز أو الصيف والشتاء أو النغمة العالية للكون في مقابل النغمة السفلى أو الذكر والأنثى.

ويرى أن القرآن "أوثق مصدر عن ديانة الجاهلية" رابطا بين ديانة مكة في الجاهلية والديانة المصرية القديمة "ذلك أن ديانة مكة بصنميها مطعم الطير ومجاور الريح وبثالوثها (اللات والعزى ومناة) اختصار لأسطورة المنطقة كلها"

نقلا عن ميدا ايست

قليلة جدا هي أخبار ركن الدين الوهراني المنسوب إلى مسقط رأسه مدينة وهران بالغرب الجزائري.. مع أن أحواله في الكتابة عجيبة، ومدى الخيال في رسائله عريض فسيح، وباعه في النقد والسخرية والتجريح والصراحة طويل؛ فلم يكن يخشى انتقام وزير أو سطوة أمير، يمزج في كتابته بين أسلوب الرسائل في الديباجة و مراعاة الألقاب، على سبيل السخرية والتهكم، وأسلوب الخطابة في الجدل والاحتجاج بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والشعر والأمثال، في سياقات مناسبة كثيرا ما يختلط فيها المدنس بالمقدس، وبأسلوب المقامة في ربط الأحداث بعنصر المكان، دون التقيد بباقي عناصر كتابة المقامة المعروفة، وبأسلوب كتابة الرحلة التي كانت دائما توحي للوهراني بمشاعر الغربة والوحشة والتبرم من الناس، وخاصة بعد إخفاقه الذريع في رحلته إلى بلاد المشرق، وكساد بضاعته الأدبية هناك عندما قامت دولة الكتابة الفاضلية التي لم يكن يشق لها غبار.
وعندما تجرع مرارة الخيبة تحول عن الجد إلى الهزل، وجنح في كتابته إلى السخرية من الزمن و أهله وأمكنته، وإلى التصوير الكاريكاتوري الفاضح للعورات النفسية والجسمية والعقلية لكثير من شخوصه الذين سلط عليهم جام غضبه، ولم يتورع عن ذلك حتى عند مخطابته لكبار زعماء عصره، كنور الدين محمود الشهيد الأتابكي، وخلفه صلاح الدين الأيوبي، رغم ما عرف عنهما من سداد وصلاح، ثم بقية وزرائهما وأعوانهما الكبار من قبيل القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني والعماد الكاتب الأصبهاني، فما بالك بمن هم دون ذلك، أو من هم على شاكلته من الكتاب والفقهاء والعلماء والأدباء العاديين الذين كان يحلو له دائما أن يلهو بهم ويعبث بسيرتهم.
فكل واحد من رجالات عصره الذين عرفهم، عن بعد أو عن قرب، قد أصابه ما أصابه من لسان الوهراني الساخر، تارة بالتصريح، وتارة بالرمز والتلميح، حتى صار أسلوبه معروفا لدى القاصي والداني، كما يدل على ذلك كلام ابن خلكان في هذه السطور القليلة التي خصصها له، عندما أفرد له ترجمة في كتابه (وفيات الأعيان)، وقد أثنى فيها ثناء كبيرا على أدبه الغزير الذي يشمل رسائل ومقامات ومنامات.
والمنامات فن شبيه بالمقامة والرسالة، نهج فيها نهج المعري في رسالة الغفران، في افتعال الأحداث الأخروية عند الحشر، وقد تميز الوهراني بها عمن سواه من الكتاب، وخاصة منامه الكبير، قال عنه:
أبو عبد الله محمد بن محرز بن محمد الوهراني الملقب ركن الدين، وقيل جمال الدين؛ أحد الفضلاء الظرفاء، قدم من بلاده إلى الديار المصرية في أيام السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، وفنُّه الذي يمت به صناعة الإنشاء، فلما دخل البلاد ورأى بها القاضي الفاضل وعماد الدين الأصبهاني الكاتب وتلك الحلبة علم من نفسه أنه ليس من طبقتهم ولا تنفق سلعته مع وجودهم، فعدل عن طريق الجد وسلك طريق الهزل، وعمل المنامات والرسائل المشهورة به والمنسوبة إليه، وهي كثيرة الوجود بأيدي الناس، وفيها دلالة على خفة روحه ورقة حاشيته وكمال ظرفه، ولو لم يكن له فيها إلا المنام الكبير لكفاه، فإنه أتى فيه بكل حلاوته، ولولا طوله لذكرته، ثم إن الوهراني المذكور تنقل في البلاد وأقام بدمشق زمانا، وتولى الخطابة بداريا، وهي قرية على باب دمشق في الغوطة.
وتوفي في سنة خمس وسبعين وخمسمائة (575 هج) بداريا، رحمه الله تعالى، ودفن على باب تربة الشيخ أبي سليمان الداراني. نقلت من خط القاضي الفاضل: وردت الأخبار من دمشق في سابع عشر رجب بوفاة الوهراني.
وهذا الآن، نص رسالة الوهراني العجيبة في مضمونها وأدائها، وقد جاءت على شكل محاورات تأخذ شكل مكاتبات ومجاوبات شبيهة ببعض الفصول المسرحية، وتبدأ ديباجتها بسرد الراوي المجهول لوقائع الأحداث الأولى، على طريقة بناء المقامة الذي يتبع في الأصل أسلوب المحدثين في إسناد الخبر.
ثم يمضي الوهراني بعد ذلك في نسج خيوط قصته أو حكايته تدريجيا، حتى يصل بها إلى نهايتها المحتومة.
وقد أسند بطولتها بطريقة رمزية إلى جامع (جلق) وهو جامع بني أمية الكبير في دمشق، وتحت سلطته تنضوي بقية مساجد دمشق ومشاهدها وأضرحتها.
وقد اجتمعت كلها عند هذا المسجد الجامع الذي كان لها بمثابة الملك، للمشاورة والمحاورة، وليدلي كل طرف بشهادته، في أداء خطابي، وبطريقة تناوبية وتراتبية، على سوء أحواله وضياع حقوقه، ثم بعد ذلك تتوحد كلمة المسجد الجامع مع من تحته من الأضرحة والمشاهد في خطاب واحد شاهد على لسان حالها، ثم يرسل إلى القيم على شؤونها، وهو سعد بن أبي عصرون، لعله ينظر في أمرها ويصلح ما اختل من بنائها.
وعندما فوجئت المساجد برد ابن عصرون المخيب لآمالها اضطرت إلى رفع أمرها إلى الملك العادل نور الدين محمود الأتابكي، وعندها فقط يأتي الفرج على يد هذا الملك العادل الذي سيرفع عنها ما كان قد حل بها من إهمال ونهب لحقوقها وأوقافها، وليعزل ابن عصرون الذي اتهمه الوهراني بتعطيل مصالحها.
لقد بنى الوهراني رسالته على هذا الشكل لتأتي متطابقة مع حقيقته الشخصية، فقد كانت حياته في المشرق شديدة الصلة بالمساجد والمشاهد والأضرحة التي كانت ملاذه الأول في مرحلة الضياع والتشرد وفي مرحلة الانتعاش والاستقرار، عندما انتبه بعض الفضلاء إلى علمه وفقهه، فأسندوا إليه الخطابة في مسجد صغير بقرية (داريا)، وهي ضاحية من ضواحي دمشق المدينة التاريخية الشهيرة.
وقد ساءه حاله كما ساءه حالها، وكانت غربته جزء من غربتها عندما آل أمرها هي الأخرى إلى الإهمال والضياع. إنه مظهر من مظاهر توحد الفقيه العربي عامة والمغربي خاصة بالأماكن المقدسة في جغرافية العالم الإسلامي، ولطالما كانت تلك المساجد وتلك المشاهد والأضرحة الملاذ الأخير لكثير من المنبوذين والمثقفين والمهمشين في تاريخنا القديم، فهل كانت رسالة الوهراني هذه نوعا من الوفاء بحقها تجاهه عندما رعته وآوته، في الوقت الذي تحاماه الناس وجفوه وأقصوه؟؟!!
وهل ينتبه إليه الدارسون المعاصرون، بعد أن صدرت مجاميع كتاباته، منذ سنة 1968م، ثم ليطويها بعد ذلك النسيان،عدا بعض الإشارات العابرة هنا وهناك!!

نص الرسالة:

قال بعض العارفين بطريق الانتحال على لسان الحال:

لما تحكمت يد الضَّياع في مساجد الضِّياع، وأُرْتِج باب العدل وغُلق، ونُبذ الكتاب وخُلق، فزعت المساجد إلى جامع (جِلَّق)، وهو يومئذ أميره، وعليه مدار أمرها.

فلما اجتمعوا على بابه، ودخلوا تحت قبته ومحرابه، كتب له جامع (النَّيرب) قصة إليه، وسألوا عرضها عليه، وكانت الرقعة مسطورة على هذه الصورة:

المماليك ـ مساجد الكورة ـ يقبلون الأرض بين يدي الملك المعظم، البديع الرفيع المكرم، كهف الدين، جمال الإسلام والمسلمين، مدفن الأنبياء والمرسلين، ملجأ الفقراء والمساكين، مأوى الغرباء والمقلين، بيت الأتقياء والصالحين، معبد الملبين، صاحب الدواوين، بِنية أمير المؤمنين.أيد الله أنصاره، وأعلى مناره، وعمر بالتوحيد أقطاره، وينهون إلى مجلسه السامي ما يقاسونه من جور العمال، وتضييع الأعمال، ونهب الوقوف، وخراب الحيطان والسقوف، قد لفهم الظلم والظلام، وأنكرهم المؤذن والإمام، فلا تسمح لهم حسيسا، ولا ترى فيهم أنيسا، إلا آذان البوم، وتسبيح الغيوم، وقد ركعت حيطانها، وسجدت سقوفها وأركانها، وانصرفت من الصلاة أربابها، وسكانها تنوح عليهم الأجراس والنواقيس، وترثي لهم البيع والنواويس:

يرثي له الشامتُ مما به
ياويح من يرثي له الشامت

وقد فزعنا أيها الملك إلى بابك، وأوينا إلى جنابك، فافعل معنا ما هو أولى بك، ورأيك العالي والسلام.

فلما وقف الملك على هذه الشكاية، وعلم بمقتضى هذه الحكاية، استوى جالسا من مقعده، وضرب بيده، وقال: كيف وأنى أم للإنسان ما تمنى، ثم رفع صوته وغنى:

وما شرب العشاقُ إلا بقيتي
ولا ورَدوا في الحب إلا على ِورْدِي

ثم اشرف الملك من إيوانه بين جنده وأعوانه، فاستقبلنه بالسلام والتحية والإكرام، وأقبل وهو يقلب طرفه في الجموع، ويكفكف أسراب الدموع، لما يرى من اختلالهم، وفساد أحوالهم، ثم رد عليهم السلام، وأذن لهم في الكلام.

فابتدأ جامع( المُزة) المقال، وتقدم بين يدي الملك وقال:

الحمد لله الذي قضى علينا بالخراب، وصير أموالنا كالسراب، وجعلنا مأوى البوم والغراب، أحمده حمد من كان فقيرا ثم استغنى، وأدرك بمال الوقوف ما تمنى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده المكين، ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأكرمين، أما بعد:

أيها الملك السعيد، ثبت الله قواعد أركانك، وشيد ما وهي من بنيانك، فإن الخراب قد استولى على المساجد، حتى خلت من الركع والساجد، فأصبحت مساجد (الغوطة) غيطان لا سقوف لها ولا حيطان، وجوامع (حوران) مخازن وأفران، ومشاهد(البقاع) صعصعا كالقاع، فكم بِنْيَةٍ لعب الجور بأثوابها، فنسج العنكبوت على بابها، وكم بيوت لله غلقت دون أصحابها، فعشعش الحمام في محرابها ( فمن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها).
وقد دخل أيها الملك على الوقوف، بحجة العمارة والسقوف، فاختلفت فينا الأهواء، واتفقت علينا الأنواء، فلا يزال المسجد ينهار، وتأخذه السيول والتيار والأنهار حتى يمتحى رسمه، ولا يبقى منه إلا اسمه، وأنت أيها الملك عمادنا، وإليك بعد الله معادنا، فاكشف عن حالنا، وانظر في صلاح أحوالنا، يصلح الله أحوالك، ويسدد أقوالك، والسلام.

فقال الملك: قد سمعنا كلام المساجد، فما بال المشاهد؟!!

فبرز مشهد (برزة) متوكئا على مشهد (الأرزة)، وهو يصلصل ويصول، ويلطم وجهه ويقول:

كلما حاولت أشكو قصتـي
لا ألقى غير ذي قلب جريح
يتشكى مثل شكوى مِحنتي
يالَقومي ما عليها مُستريــح

أما بعد، أيها الملك السعيد، أدام الله جمالك، وبلغك في عدوك آمالك، فإن مقام (إبراهيم) أصبح في كل واد يهيم، ومغارة (الدم) لا تستفيق من الذم، ومشهد (الكهف) لا يفتر من اللهف، ومشهد (هابيل) قد رمي بطير أبابيل، ومشهد (شيث) قد استأصله الخبيث، ومشهد (نوح) نبكي عليه وننوح، وقبر(حلة) ما لنا فيه حلة، وقبر (إلياس) قد وقع منه اليأس، فلحقت المشاهد بأربابها، وأمست رميما كأصحابها، قد محتها الغوادي، وحدا بها الحادي:

جرت الرياح على محل ديارهم
فكأنهم كانوا على ميعــــــاد

فتنحنح الملك عجبا، وحرك رأسه طربا، وقال:

رب طارق على غير وعد
وفي كل واد بنو سعــــــــــد

ثم استفتح المقال بأن قال:

الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، نصب العدل وسواه، وأمده بعونه وقواه، ( فمن أضل ممن اتبع هواه )، فأهواه بسلبه وأضله على علم، وختم على سمعه وقلبه، أحمده على ما رزقني من الاحتمال، وأشكره على ذهاب العرض والجاه والمال، وأشهد أن محمدا عبده المختار، ورسوله الصادق البار، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، أما بعد:
يامعشر المتكلمين، وطائفة المساجد المتظلمين، إنه والله لا ينتهي إليكم من الجور إلا ما يَفضُل عني، ولا يصل إليكم إلا ما يُستعار مني، فلولا أن أركاني سليمة، وبِنْيَتي قديمة، لأصبح جامع بني أمية يُغنى عليه: (يادار مية)، وقد والله شَِرقت بغُصتكم، وحِرت في قصتكم، إن رفعت أمركم إلى الملك العادل، ردكم إلى الشيخ الفاضل، فلا يراعي لكم حرمة، ولا يكشف لكم غمة، ولا يرقب فيكم إلا ولا ذمة.

شكوى الجريح إلى الغربان والرخم

والرأي عندي أن تكتبوا إلى هذا الشيخ قصة، ولا تتركوا في صدوركم غصة، وأن في الكتاب أنواعا من العتاب، فإن التأم رأيه برأيكم وإلا فالسلطان من ورائكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

فنادوا بالغلام، فأتى بالدواة والأقلام، فقال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم، واكتب:

بسم الله الرحمان الرحيم، من ملك الجوامع ب(جيرون) إلى سعد بن أبي عصرون:

لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنـــــادي

أما بعد:

ياغدار، لقد هيجت الألم، وأبهمت الظلم، ومن استرعى الذئب فقد ظلم، طالما تغافلنا على خيانتك، وتغاضينا عن جنايتك، حتى اكتنزت الأموال واختزلتها، وجمعت الذخائر واعتزلتها. من أجل هذا كانت سِياحتك، ولأجله طالت نياحتك، وبسببه كنت تسيح وتصيح، حتى غبطك المسيح، لقد عجبت أيها الشيخ من مُحالك في ابتداء حالك، ومن فساد دينك وضعف يقينك، صليت بالمسوح والقيد حتى ظفرت بأنواع الصيد، وتقلدت بالقرون والعظام حتى تقلدت الأمور العظام أن كنت في هذا العمل إلا كما قيل في المثل:

صلى وصام لأمر كان يأمله
حتى حواه فما صلى ولا صاما

وعرِّفني أيها الشيح المفتون، والبائع المغبون: لم بعت الآخرة بالدانية، والباقية بالفانية؟! إن فعلت هذا إلا لِعلة أو لتحقيق مِلة، إما أن تكون قد استطبت (السكباج)، واستلنت الديباج، وإما أن نصدق أهل الأحقاد في أنك نُصيري الاعتقاد، لا تقول بالنُّجعة، ولا تصدق بالرِّجعة، وكلاهما أنت فيه ملوم ومُعاقب ومذموم، وحسبك، وقد بلغني عنك ما أنت عليه من قلة الوفاء لهؤلاء الضعفاء، فاحسم عني أدواءهم، ولا تمكِّن منهم أعداءهم والسلام.

فلما وصل الكتاب إليه، وقرأ ما انطوى عليه فكر وقدر فقُتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس، ثم أدبر واستكبر، ثم لعن المساجد وبانيها، وشتم المشاهد وقانيها، ثم قلب الرقعة وكتب فيها:

بسم الله الرحمان الرحيم، وصلت رقعتك ـ أصلحك الله ـ كأنها ضربة موتور، أو نفثة مَصْدور، وتخلط فيها الهَزل بالجِد، وتبدي غيظ الأسير على القيد، وأيْمُ الله لقد قَرَفت سَِريا، وقذفت بريا، وجئت شيئا فَِريا، فاشدد من عِقالك، وتأيد في مقالك، فما كل شكل يذم شكله، ولا كل طائر يحِل أكله، ، وما كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء فحمة، ولو كان لك عقل يُهديك، أو رأي يَهديك لواريت أُوارَك، ولسترت عوارك، أليس قد اشتهر عند الداني والقاصي بأنك قطب ما يتم فيك من المعاصي، حتى لقبوك بسوق الفسوق، وميدان المروق، ورحاب القحاب، حتى قال فيك القائل:

تجنب دمشق فلا تأتها
وإن راقك الجامع الجامع
فسوق الفسوق به قائم
وفجر الفجور به طالــــع

فلا جرم أن الله قطعك بالطريق، وعاقبك بالحريق، وجعل الميض على أبوابك، والزط في قبلة محرابك، وعذبك بالنيران، وقرنك بأشر الجيران، وجعل خطيبك أتوها دائصا، وإمامك أعمى ناقصا، فلو أنك البيت المعمور لهجرت، أو حرم مكة لما حججت، فقف عند مقدارك، وانظر في إيرادك وإصدارك، والسلام.

فلما وقف الجامع على رقعته، ورأى ما فيها من رقاعته قام وقعد، وأبرق وأرعد، وقال: اكتب ياغلام، باسم الملك العلام:

من العاتب الواجد إلى الملك الزاهد، قال الحائط للوتد: لم تشقني؟ قال: سل من يدقني، لم يتركني ورائي الحجر الذي ورائي، أما بعد:

أيها الملك العادل، أدام الله أيامك، ونشر في الخافقين أعلامك، فقد طاولت بعدلك القمرين، وسرت سيرة العمرين، وأنت تعلم أن الله قد طهر بقعتي وكرمها، وشرف بنيتي وحرمها. طالما زوحمتُ بالمناكب لما كنت هيكلا للكواكب، وكم أمسيت مشكاةً للأنوار، وبيتا لأستقص النار، ثم انتقلت إلى اليهود بعد انقراض ملة هود، فتأنست بالزبور، وبالأنبياء في القبور، ثم جاءت دولة الصلبان فقربت بالقربان ومعاشرة الرهبان، ثم جاء الإسلام فتشرفت بدين محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فأنا المُشَرَّف في كل قرآن، والمعظم في كل أوان، فكيف يسعك ـ أيدك الله ـ أيها الملك المتغافل عن حالي، والمتحيِّن لنهب أموالي، ويدك مبسوطة في العباد ومطلقة في جميع البلاد.
ما يكون جوابك يوم النشور إذا بعثر ما في القبور، وقد أُوقفت موقف الذليل بين يدي الملك الجليل؟ وأقول: أيْ رب سل هذا لمَ أهملني، وسلمني لمن أكلني! فلا ترد جوابا، ولا تجد خطابا، ولا أقبل منك جميلا ولا كفيلا، ولا أقبل عنك شفيعا ولا وكيلا، فتقول: ( ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، ياويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاء وكان الشيطان للإنسان خذولا).

فقدم أيها الملك السعيد لنفسك ما تجده غدا في رمْسك، وخذ هذا المذكور في الحساب قبل يوم الحساب، فتَبْرأ من التباعة، وتدخل في أهل الشفاعة، والسلام على من حمى مساجد الإسلام ورحمة الله وبركاته.

فلما وقف الملك العادل على كتابه، وتجرع كأس عتابه التفت إلى المساجد فرثى لهم وسدد أحوالهم، ولما علم فحوى شكايتهم، وعرف كنه قضيتهم أزال عنهم ظلمهم، (وأسرها يوسف في نفسه، ولم يبدها لهم)
ثم نظر إلى ابن أبي عصرون فأنزله واعتزله، وحجبه عن بابه واختزله، وألقاه في سِجن الصدود، وخلده إلى يوم الخلود، وقرأ عليه: (ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود). والسلام.

هامش: (1) النص مقتبس عن كتاب : مقامات الوهراني ومناماته ورسائله ، ص 61 وما بعدها. تحقيق إبراهيم شعلان ومحمد نغش، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، مصر 1968م. الجمهورية العربية المتحدة.

بقلم/ عبد اللطيف المصدق


هذا القسم مخصص لإجراء الحوارات مع مواطنين من مختلف الفئات والأعمار.. قريبا نستضيف المسيو مواطن "الأول" ليجيب عن أسئلة وإن المواطن ذاته يبحث عن أجوبة لأسئلته المزمنة..

خديجه بن قنة ... الإعلامية المتميزة والحرفية المتقنة .. استطاعت بذكائها الفطري وثقافتها الواسعة وعشقها للغة الضاد وبصوتها الآسر الشجي وأدائها غير الرتيب أن تستحوذ على قلوب الجماهير العريضة التي تتابعها على فضائية الجزيرة لامتلاكها ناصية الحضور والقبول والتقدير لشخصها الفريد ...

هي مذيعة بدرجة قبطان .. يقظة وذات قدرات فائقة .. وتتسم العلاقات معها على المستوى الشخصي بالمودة واللطف وخفة الظل .. كان لعتيدة معها هذا اللقاء الثري جدا بالمعلومات ...

1ـ هل توجد حواجز ثقافية بين دول المغرب العربي وبيننا نحن في المشرق العربي؟ وفيما لو كانت تلك الحواجز قائمة فمن الذي أقامها ومن الذي وطدها؟ وما هو الحل للمّ الشمل بين المشرق والمغرب في بلاد العرب المشتتة؟

نحن نعلم أن بين المغرب والمشرق العربيين علاقات تاريخية عريقة أحد أبرز وجوهها كان الدعم المادي والسياسي الذي قدمته دول المشرق العربي وعلى رأسها مصر للثورة الجزائرية إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر الذي دام مائة واثنتين وثلاثين سنة وقد أبدع شاعر الثورة الجزائرية الكبير المرحوم "مفدي زكريا" في الوصف عندما قال في قصيدته التاريخية الشهيرة "إلياذة الجزائر":

ونكبر مصر وأحرارهــا *** ومن آزروا حربنا الطاهــرة


و ليس أدلّ على هذا التلاحم المشرقي المغربي من تلحين النشيد الوطني الجزائري على يد الملحن المصري المرحوم "محمد فوزي"..

ولكن من ناحية أخرى ظلت الحواجز الثقافية دائما موجودة بين طرفي الكيان العربي مشرقه ومغربه، لأسباب تاريخية معروفة، ذلك أن منطقة المغرب العربي في معظمها كان مستعمرُها فرنسياً ومنطقة المشرق العربي في معظمها كان مستعمرُها بريطانياً.

وإذا كان المستعمر البريطاني قد نهب الخيرات وقدم ما لا يملك لمن لا يستحق هدية لإسرائيل فان المستعمر الفرنسي لم يكتف بنهب الخيرات بل عمل جاهدا على طمس الهوية العربية الإسلامية للمنطقة وتحديدا الجزائر التي منع فيها تعليم اللغة العربية على مدى قرن وربع القرن ولم يترك فيها أي معلم ثقافي أو علمي عكس المغرب وتونس اللتين احتفظتا بأبرز معالمها الثقافية خاصة جامع الزيتونة وجامع القرويين.

واليوم زادت الحواجز الثقافية بين المشرق والمغرب رغم وجودهما جنبا إلى جنب داخل كيان جامعة الدول العربية، لذلك نجد بعض الأصوات لمثقفين وسياسيين عرب تستغرب وجود دولة مثل موريتانيا في عضوية الجامعة العربية، وقد أشار إلى ذلك عدة مرات الأستاذ الكبير "محمد حسنين هيكل" عندما أخرجها من الكيان العربي بقوله إن لعنة الجغرافيا تلاحق موريتانيا أو عندما قال عنها الرئيس الراحل "أنور السادات" رحمه الله إنها دولة يجهلها التاريخ..

لم الشمل العربي بمشرقه ومغربه مسألة تحتاج في نظري إلى توفر إرادة سياسية لأن إرادة الشعوب في الوحدة العربية موجودة، وربما علمنا التاريخ في آخر فصوله الحديثة في أوروبا أن الشعوب الأوروبية رغم اختلافاتها العرقية والثقافية واللغوية استطاعت أن تقطع شوطا متطورا جدا في توسيع دائرة الاتحاد الأوروبي شرقا رغم رواسب الحرب العالمية الثانية ..أما الأمة العربية التي توفرت لها كل عناصر الوحدة تفرقت بسبب غياب الإرادة السياسية التي لم تكتف بتقسيم العالم العربي إلى مشرق ومغرب بل قسمته اليوم إلى دول اعتدال ودول تطرف وسنة و شيعة ووفرت بذلك كل أسباب التفرقة التي تجعل مجرد التفكير في الوحدة ضربا من ضروب الخيال..

2ـ من خلال خبرتك في التعامل مع مثقفي الغرب والمثقفين العرب ـ سواء أمام الشاشة أو من خلفها ـ ما هي في رأيك نقاط الاختلاف ونقاط الاشتراك بين الفئتين؟؟

أولا- المثقفون في الغرب ولاؤهم للمؤسسات بينما ولاء المثقف العربي للأفراد ... وهذا ما يفسر صراع المثقف العربي بين ولائه للحاكم والمسؤول وبين ولائه لمهنته ومؤسسته .. وهو صراع لا نكاد نراه في الغرب بسبب وجود مؤسسات حقيقية من جامعات ومراكز بحثية وصحف لها وزنها ينتمي إليها المثقف وهي مؤسسات تقدم له الحماية في ظل وجود أنظمة ديموقراطية توفر للمثقف شروط الإبداع من حرية تعبير وحماية قانونية ..الخ

ثانيا- المثقف الغربي تربى عقله من الدراسة الابتدائية إلى الجامعة على التفكير الديكارتي المنهجي المنضبط بينما تربى العقل العربي على الديماغوجية واستهلاك الطاقة الصوتية ..ويدعم رأيي هذا القول المأثور: الغرب عقلاني والشرق وجداني ..

كانت لي فرصة العمل في سويسرا مع مثقفين سويسريين في إذاعة سويسرا العالمية ووقفت من خلال هذه التجربة على فروق كبيرة بيننا وبينهم في النظر إلى الأشياء والظواهر والحكم عليها ..

لكنني في نفس الوقت لا أملك أن ألوم المثقف العربي على أدائه، بسبب رزوخه تحت وطأة القمع المسلط عليه من الأنظمة السياسية الحاكمة ومنظومة القوانين التي تعاقبه على أبسط الأشياء ..

والمثقفون في الغرب تجمعهم اتحادات وجمعيات مهنية تدافع عنهم في العالم فتجد مثلا أن الصحافي البريطاني الن جونستون من إذاعة البي بي سي المختطف في غزة يحظى بتعاطف عالمي كبير معه ومناشدات دولية لإطلاق سراحه بفضل تحرك المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان وحقوق الصحافيين لصالحه، وهذا بالتأكيد شيء إيجابي وضروري ولكنك لا تجد على سبيل المثال نفس التعاطف والتحرك عند المثقفين العرب بخصوص قضية سامي الحاج المعتقل في غوانتنامو..

3ـ هل يمكن سد الفجوة بين الثقافتين الغربية والعربية خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر وكيف؟؟

أعتقد أن الفجوة بين الثقافتين الغربية والعربية اتسعت بشكل كبير بعد أحداث 11سبتمبر بسبب حالة التوجس الشديدة الموجودة بيننا وبينهم وانعدام أجواء الثقة وغياب الحوار ..

فأحداث 11 سبتمبر وفرت كل الأسباب المناسبة لمحاربة المسلمين والعرب وبدأت الحرب على الإرهاب باستهداف كل ما له علاقة بالإسلام بدءا من مراجعة مناهج التعليم من الصفوف الابتدائية وصولا إلى مراقبة ما يبث في وسائل الإعلام وما ينشر من كتب ومن إنتاج فكري وثقافي ..

وبدا اليوم للغرب أن كل ما هو إسلام أو مسلم أو إسلامي إرهابا وفي نفس الوقت بدا للعربي والمسلم أن كل ما هو حوار ديني مع الغرب ليس إلا تبشيرا وتنصيرا وكل ما هو حوار سياسي تطبيعا وهرولة نحو العدو الصهيوني وأصبحت كلمة (حوار) و(صراع) مفردتان ملازمتان لأي حديث عن العلاقة بين العرب والغرب ..

اضطراب العلاقة بين الثقافة العربية والغربية تجلت مؤخرا في عدة أحداث منها تصريحات بابا الفاتيكان بندكت السادس عشر بخصوص الإسلام والرسوم الكاريكاتورية عن النبي محمد (ص) وأيضا من الجانب الآخر قتل واستهداف أو اختطاف الرعايا الأجانب في بعض الدول العربية..

من هنا ربما جاءت الحاجة إلى إطلاق مشاريع إعلامية أجنبية موجهه للعالم العربي تخاطب المشاهد العربي بلغته العربية مثل تلفزيون البي بي سي العربي و فرانس24 العربي وروسيا اليوم بالعربي ودويتشي فيلي بالعربي والحرة وغيرها فيما لا تسد هذه الفجوة الكبيرة من الجانب العربي سوى بعض المشاريع القليلة جدا الموجهة إلى المشاهد الغربي باللغة الانجليزية مثل الجزيرة الانجليزية..

لكن هذا لا يسد الفراغ الكبير والفجوة الهائلة بين الثقافتين إذ لا بد من حوار شامل لا يجمع المثقفين فقط بل أيضا رجال الدين ومؤسسات المجتمع المدني ..

4ـ ما هو الدور الذي يمكن أن يقوم به الإعلام عموما والإعلام العربي خصوصا في التعارف بين الثقافات عامة وتجاوز الثنائية "الإسلام/الغرب" أو "الإسلام/المسيحية"؟ فكما لا يخفى، كلما كان هناك حديث عن حوار الحضارات/الثقافات انصرف ذهن الغالبية الساحقة من الناس إلى الثنائية المشار إليها آ نفا وذلك لفرط تركيز الإعلام عليها؛ فما السبيل إلى الانعتاق من ربقتها كي يكون فضاء التعارف أرحب وأوسع؟؟

لن نستطيع الهروب من هذه الثنائية لأن التنظير لصراع الحضارات جاء من الغرب في مؤلفات هنتنغتون وغيره .. و لأن العالم الغربي لا ينظر إلينا بمعزل عن كوننا مسلمين حتى إن بعضهم يندهش عندما يرى مسيحيين عربا يعيشون في انسجام ووئام مع محيطهم العربي. وقد أسرّ لي أحد زملائي المسيحيين وهو شخصية رصينة ومحترمة ومشهورة في الوسط الإعلامي بانزعاجه من سؤال المثقفين الغربيين له متى وكيف اعتنق المسيحية .. وهو دليل جهل بأن في المنطقة العربية مسيحيون منذ آلاف السنين بل إنها مهد المسيحية...

إذا الغرب لا ينظر إلى حوار الحضارات بمعزل عن كونه حوار أديان أيضا وربما هذه الثنائية ليست موجودة في علاقة الثقافة الغربية مع الثقافات الهندية والآسيوية ..

ثنائية لا مفر منها ولها ما يسندها في التاريخ في علاقة المسلمين بالحضارات الرومانية واليونانية والبيزنطية وغيرها ..

5ـ كيف أثرت الترجمة على عملية نقل الأحداث وما هو الدور الذي يجب أن يلعبه الإعلام المرئي والمكتوب؟؟

الحديث عن الترجمة يفتح بنفسي جروحا عميقة، فقد قرأت مؤخرا مقالا للأستاذ جهاد الخازن يقول فيه إن 330 كتابا يترجم إلى العربية كل عام أي خمس ما يترجم إلى اللغة اليونانية علما أن العرب 300 مليون عربي واليونانيون 11 مليون يوناني ..

أعتقد أنه لا تعليق بعد هذه الإحصائية!!

لكن لو تحدثنا عن الترجمة على مستوى الإعلام والصحافة فربما تكون الصورة أقل كارثية لأنه لا مكان اليوم لصحافي في وسائل الإعلام إن كان غير مزود بعدة لغات تمكنه من الفهم والترجمة وبذلك انتعشت الصحافة المكتوبة اليوم بمقالات تحليلية كثيرة مترجمة من كبريات الصحف العالمية إلى اللغة العربية ..

6ـ هل حدث ذات يوم سوء فهم في نقل خبر معين وذلك بسبب الترجمة غير الدقيقة، وما هو دور المترجم في الإعلام العربي؟؟

يحدث هذا الأمر كثيرا خصوصا إذا كانت الترجمة فورية. فمثلا يحدث أن يترجم المترجم عبارة "ستايت اوف مايند" إلى دولة الفكر وهي قد تكون في الواقع حالة ذهنية أو يحدث مثلا أن تترجم كلمة "فوالي" بالفرنسية أي محجبة إلى كلمة "فيولي" خطأ وتعني مغتصبة..

فحركة حرف واحد تغير المعنى تماما وبالتالي يكون الجهد المبذول من المترجم جهدا عظيما لا يقدر أهميته إلا من جرب صعوبة ووعورة تضاريس اللغات على اختلافها. والحقيقة أنني أشفق أحيانا على إخواننا المترجمين عندما أسمع بكلمات ومفردات جديدة دخلت على قاموسنا مثل مصطلح القومجية والشعبوية والإسلاموية ...الخ

حاجتنا إلى المترجم هي حاجة دائمة لا يلغيها التقدم التقني الهائل الحاصل في مجال الترجمة الآلية بواسطة برامج إلكترونية على الحاسوب رغم أن الترجمة الآلية على الحاسوب توفر لنا وقتا كبيرا وسرعة مذهلة في الحصول على النص المترجم في دقائق، إلا أن جودة الترجمة ليست مضمونة إلا بنسب ضئيلة كما أنها تفرغ النص المترجم من روحه..

لكن في كل الحالات الترجمة هي محاولة لنقل النص من وعاء إلى وعاء آخر لكن خيانة النص الأصلي هي مسألة شبه محتومة كما يقول الفرنسيون: traduire c'est trahir أي الترجمة خيانة.

7 ـ توظيف مكانتك وسمعتك المكتسبتين عبر الفضاء البصري والسمعي لكي تكوني السباقة إلى تكوين لوبي قوى تتكون نواته من أصدقاء اللغة العربية ومحبيها وعشاقها من مثقفين وأكاديميين وباحثين وصحفيين وسياسيين ومؤسسات هامة أخرى مثل الجمعيات الفاعلة ومراكز البحوث وغيرها للضغط على أصحاب الحل والعقد في أنحاء العالم العربي للنهوض باللغة العربية فتنتعش وتفيق من غيبوبتها التي طال أمدها؟؟

لقد فتحت يا ثريا جرحا آخر بهذا السؤال.. لسببين أساسيين:

الأول أن اللغة العربية أصبحت اليوم كالبيت المهجور الآيل إلى السقوط بعد أن تركها أهلها أو كما قالت هي على لسان الشاعر الكبير حافظ إبراهيم:

رموني بعقم في الشباب و ليتني *** عقمت فلم أجزع لقول عداتي


حتى يصل الشاعر إلى التحذير من قرب وفاة اللغة العربية بالقول:


فلا تكلوني للزمان فإنني *** أخاف عليكم أن تحين وفاتي


وربما هذه هي الحقيقة المُرّة برأيي التي لا يمكن تجاهلها والتي حذرت منها منظمة اليونسكو وهي أن اللغة العربية هي واحدة من اللغات المهددة بالانقراض في العالم ..

وهذه حقيقة ليست مستبعدة ولا مستغربة عندما نضع واقعنا وحياتنا اليومية تحت المجهر، إن أنت دخلت بلدا كالجزائر ستجدين اللغة الفرنسية هي اللغة الطاغية في مكان العمل وفي السوق وفي المقهى وفي المدرسة.. وإن أنت دخلت بلدا في منطقة الخليج ستجدين اللغة الانجليزية هي لغة العمل والحديث والسمر .. و تعتريك غصة في قلبك وأنت تنتقلين من المطار مع سائق هندي يتحدث الانجليزية أو لغة تشبه العربية بركاكة هندية إلى فندق يستقبلك فيه موظفو الاستقبال والمطعم وخدمات الغرف ب: غود مورننيغ .. كان آي هلب يو؟

أبناؤنا يدرسون في مدارس أجنبية وبعد يوم متعب وطويل يعودون إلى البيت لتخاطبهم المربية أو الخادمة باللغة الانجليزية أو الهندية أو الفليبينية..

أما السبب الثاني الذي أثار مواجعي فهو سؤالك عن طريقة توظيف المكانة والمنصب والشهرة في الإعلام السمعي البصري للدفاع عن اللغة العربية...

عزيزتي لا عزاء لي ولك في وسائل الإعلام التي توظف مشاهير الرقص والغناء والجمال والفن في الدفاع عن الميوعة والخلاعة في تلفزيوناتنا العربية ..

8ـ منذ متى وظفت قطاعات الثقافة والتلفزيونات العربية مشاهير الإعلام والثقافة في قضايا الدفاع عن ثوابت الأمة وعن قضايا الإنسان؟؟

للأسف من يتم توظيفهم للتأثير على الناس بدءا من الترويج لعلبة الشبس والبيبسي كولا إلى التحذير من خطورة الألغام هم المطرب والممثل و الراقصة وعارضة الأزياء ...هؤلاء هم سفراء النوايا الحسنة..

الحوار أجرته الاعلامية والكاتبة : ثريا نافع رحمها الله وتغمّدها برحمته ورضوانه

أجرى الحوار: بشير عمري

شكلت ظاهرة الاحتجاج الشعبي العربي التي ارتقت خطابيا وسلوكيا في مقام الثورة في زمن الانزياح الثوري بعد سقوط الإيديولوجيات وقيام أشكالات أخرى في قصة صراع الوجود الإنساني، محور اهتمام العديد من الباحثين والكتاب من العرب كانوا أو غرب وذلك لمحولة فهم هذا الشذوذ عن مسار تطور الآليات التغيير السياسي لدى العرب الذي لم ينبذ بعد أداة التثوير الشعبي لإحداث وإحلال التغيير مثلما حصل في الغرب أين أضحت سلاسة العمل السياسي الدستوري القائمة على الوعي الوظيفي بآلية المؤسسة في تفعيل أي تحول يستهدف تجاوز مرحلة مأزومة في عمر الأمة.
من بين الذين كرسوا أقلامهم لمحاولة استيضاح وتوضيح ظاهرة ما يسمى بالربيع العربي الأستاذة الباحثة والكاتبة اللبنانية مروة كريدية، التي تفضلت مشكورة بقبول الحديث إلينا بشأن خلاصتها في الموضوع.

o يرى البعض أن هشاشة الثورة الشبابية تتجلى في انحسارها عن تقويض بينة النظم الأمنية المتكلسة ما هي قراءتك للفعل الثوري السياسي؟

بداية مصطلح " الثورة " بحد ذاته تحفّه كثير من الملابسات، نظرًا لما يخالطه من نواح سلبية، وما حمله عبر العصور من تغيير ارتبط بمفهوم العنف في بعض جوانبه كما تتنوع سياقاته وفق التغييرات الحضارية التي تطرأ على الشعوب، غير أن النواحي الايجابية للثورة تتمثل في الحقيقة الإنسانية الكامنة في الانتفاضة من اجل كرامة الإنسان الذي يأبى أن تُهان إنسانيته .
والثورة السياسية بمفهومها الايجابي كما أراها تكريس للتطور والتقدم البشري، وهي فعل سياسي يسعى لتحقيق النواحي الايجابية لسياقات التطورات المصاحبة لكافة التطورات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية وغيرها، لأن الثورة السياسية من شأنها أن تضع كافة التطورات موضع التطبيق والتنفيذ العملي؛ هذا طبعًا إذا اعتبرنا أن "السياسة" تعني الحكمة وحسن الإدارة على نحو ينسجم مع القيم الإنسانية، وبهذا التوصيف يصبح الرجل السياسي " هو الخادم المؤتمن المتصف بالوعي والحكمة من اجل تحقيق وتطبيق العدالة الاجتماعية والرفاه الاقتصادي والتطور التكنولوجي وغيره .

o مفارقتي تثوير الشبان للشعب ضد النظام و عسكرة النظام للثورة ضد الشعب، خفت الوهج التغييري الذي لاح سليما في تجربتي تونس ومصر، لماذا يعنف في العادة التغيير السياسي في العالم العربي؟

المحور الجوهري والنقطة الأساس في وهج التغيير التونسي والمصري تكمن في سلمية الاحتجاجات و لاعنفية الثورة. لأن الثورة بمعناها الايجابي الجيد لا يمكن أن تكون مسلحة بحال من الأحوال . لذلك فإني أُفضل استخدام عبارة "العصيان المدني اللاعنفي " أو "الاستيلاء المدني" ولكن تبقى كلمة "الثورة" أكثر انتشارا واستخداما .
فالثورة إن انحرفت عن سلميتها تحولت إلى فوضى وحرب أهلية، والأنظمة الحالية الآيلة للسقوط تسعى جاهدة لجرّ المعارضات إلى العنف كي تسوغ لنفسها البقاء.
ما نره اليوم هو تجاهل تام من قبل السلطات لموجبات الديمقراطية، وتكريس الأيديولوجية الأمنية باسم ضرورة استتباب النظام لتبرئ الدولة نفسها أعمالها العنفية و مجازرها التي ترتكبها يوميا. وهو ما نراه حاليا في سوريا واليمن حيث تسعى السلطات اليمنية إلى تعميق الخلافات القبلية والتشرذمات العشائرية داخليا كما تلوح للمجتمع الدولي بفزّاعة الإسلاميين والقاعدة خارجيًّا .
أما النظام السوري فيزعم أن هناك مؤامرة خارجية تحاك ضدّه بسبب دعمه "للمقاومة" ، كما يصور المتظاهرين على أنهم شرذمة قليلون خارجون عن القانون يمارسون العنف والاقتتال الطائفي، كي يكرس بقائه ووجوده عبر أيديولوجية مخابراتية أمنية تتحكم ظلما برقاب البشر فيما يرفض تمام الرفض استقبال وسائل الإعلام ومراسليها على أراضيه .

o من جهة القراءة الفكرية للانتفاضات ماذا يعكس "الربيع العربي " من وجهة نظرك لا سيما وان المثقفين العرب قد انقسموا بين متوجس من اللحظة الثورية ومنخرط فيها، هل تخوف المثقف من الحالة الثورية عائد بالضرورة إلى سوء قراءته لقانون انتفاضة الشعوب وعلى الطرف النقيض هل من انخرط في الهدير الشعبي الثائر واثق من الوعي الثوري الشعبي وتداعياته البعيدة؟

الربيع العربي كشف عورة المثقفين العرب الذين عملوا على فبركة النظريات النخبوية الجوفاء فيما الشارع العربي تجاوزهم بمراحل وشباب التغيير لم يكترثوا بالنظريات تلك بل تصرفوا بتلقائية فيما كان المثقفون على هامش الأحداث في معظم الأحيان .
فمن الناحية الفكرية الحراك العربي عكس بشكل واضح انهيار الخطاب الدوغمائي العقائدي وأعلن عن انتهاء عصر الأيديولوجيات المتطرفة والأصوليات الشمولية، وبالتالي فإن الأنظمة التوتاليتارية أصبحت بحكم المنتهية والآفلة…. وبالمناسبة الدولة الشمولية سقطت نظريا مع ثورة الاتصال المتمثلة بالفضاء السيبيري للانترنت، لان شباب التغيير تجاوزوا واقعهم بأشواط بعيدة، فيما عجائز السلطة ومثقفيهم قابعون في ثلاجة الأنظمة، وجيل الشباب كرسّ الواقعيّة السياسية المتمثلة بالعقلية التداولية وهذا يعني تجاوز كل تفكير ميتافيزيقي أو ميتولوجي أو عقائدي .

o وماذا عن المفكرين و المثقفين الغربيين ؟

هناك تداعيات جليلة أيضا على مستوى الخطاب الفكري لا سيما عند المنظرين والمحللين الأوربيين والغربيين. لأنها ببساطة هدمت أفكارهم وقوضت الكثير من نظرياتهم التي عملوا على أساسها.
بعبارة مختصرة لقد انهار الخطاب الغربي القائل بأن الشعوب العربية غير ناضجة للديمقراطية ولا تُحكَم إلا بالقمع ولا تعترض إلا بالعنف و أن زوال الأنظمة الشمولية يعني صعود التطرف الاسلاموي .
لقد مرت عقود وهم يعتقدون أن الديمقراطيات في العالم العربي ينبغي ألا تضمن المساواة في الحقوق المدنية والسياسية وان تلك الشعوب تقنع بالكفاف من لقمة العيش وبعض التعليم، بيد أن الشعوب أثبتت أنها جديرة بنيل حريتها وهي تريد ديمقراطيات تامة وحريات حقيقية لا شكلية وأنها تنال ذلك بشكل متحضر لاعنفي.

o هي إذن انعكاسات انهيار الخطابات المؤدلجة لدى المثقفين العرب وفشل الخطاب الغربي على الأنظمة العربية ونماذجها ؟

ما لم تُبادر الحكومات العربية إلى إحداث تغييرات جذرية في بنيتها المؤسساتية فإن النماذج الجامدة ستتهاوى بحكم طبيعة العصر المتغير المعولم ، لم يعد ينفع الأسلوب البيروقراطي العاجز لإدارة شؤون البلاد ، كما اظهر النموذج "الانقلابي" فشله الذريع . فالانقلابات العسكرية التي أفرزت بعض الأنظمة العربية أواسط القرن الماضي أخفقت في تحقيق شعاراتها سواء تعلق الأمر بالوحدة والاشتراكية والتقدمية أو تلك المتعلقة بالتحرير والمقاومة، فلا الجولان "تحرر" ولا العدالة الاجتماعية "تحققت" ! إنما تحول النظام إلى جهاز قمع يمارس العنف بحق أبنائه ليل نهار لقد حادت هذه الأنظمة عن أهدافها وشعاراتها وأكلت أبناءها.
لقد برهنت الشعوب من خلال اعتراضها السلمي وعصيانها المدني وجود شريحة من الليبراليين والمدنيين والاجتماعيين من غير الإسلاميين تريد التغيير – وهو ما رأيناه جليًّا في ميدان التحرير في مصر – فالثورة في كل من مصر وتونس برهنتا أن هناك جيل من الشباب يعي تمام العلم حقوقه ويطالب بالحرية .
لطالما كان يتم الترويج إن الاعتراض السلمي اللاعنفي حكرا على الشعوب الأوروبية والغربية " المتحضِّرَة" وان الشعوب العربية لا تجيد سوى "الإرهاب " ولا تُحكم إلا عبر "العسكر " والديكتاتوريات " ، الجيل الجديد اثبت خلاف ذلك وانه يجيد المطالبة بحقوقه بشكل سلمي ، فلننظر قليلا في الحالة اليمنية كما السورية حيث نجد إصرار من قبل المتظاهرين على سلمية المسيرات وعدم الانجرار إلى دوامة العنف .

o أليس تخوفّ الغربيين والقوى الليبرالية من صعود الإسلاميين إلى السلطة عقب نجاح الثورات مبررا؟

الثورات أثبتت "علمانيتها " و"مدنيتها" و "سلميتها " فثورة الياسمين التونسية لم يقم بها إسلاميون بداية وإنما شاركوا بها فيما بعد؛ كما اثبت الطرف الإسلامي المتمثل بحزب النهضة على تمسكه بعلمانية الدولة وقوانينها المدنية وقد صرح بذلك مرارا وتكرارا راشد الغنوشي بعد أن استفاد من تجاربه طيلة عقدين وتماهى مع النموذج التركي .
إن عوامل نجاح الثورة تتمثل في ثلاث مرتكزات وذلك بان تكون علمانية – مدنية – سلمية ؛ علمانيتها بحيث لا تنطلق من منطلقات أيديولوجية وعقائدية تنبذ الآخر ؛ مدنيتها بحيث تقوم على مفهومي المواطنة والديمقراطية ، وسلميتها بحيث يكون فاعل الدفاع هو المواطن المطالب بحقه عبر الاعتصام السلمي والعصيان المدني اللاعنفي وليس كفاحا مسلحا دمويا .

o بدا في مقالك "لماذا يريد الشعب إسقاط النظام؟" نقد لتراتبية السلطة في المجتمع العربي بوصفه انعكاس تاريخي للأصول التأسيسية للأشكال التي تمتد من الأبوية البطريركية التي تقوم عليها العلاقات السلطة الأسرية، هل تعنين أن الإشكال هو كامن في خلال البنى العلائقية أم في الوعي بمفهوم السلطة وتطوره في المخيال الفردي والجماعي العربي؟

نعم ؛ لقد قلت أن الدولة التسلطية تحتكر لنفسها مصادر السلطة والقوة في المجتمع لصالح النخب الحاكمة، مرتكزة في ذلك على اختراق المجتمع المدني وتحويل المؤسسات المستقلّة إلى مؤسسات تابعة كامتداد لأجهزة الدولة في ظل هيمنة صارخة لسلطة الاقتصاد، علاوة على البعد الأيديولوجي لهذه الدولة التي تسعى من خلال الأجهزة الأيديولوجية إلى تبرير مشروعيتها والتأكيد على "مركزية القيادة " مما يترتب عليه ، غياب الحريّات في سبيل فرض القمع الذي يكرس التراتبية الهرمية الذي يفرض الطاعة والولاء من الأعلى إلى الأدنى الذي يكرس النظام البطريركي الأبوي في المجتمعات .كما أن مسألة التحكم بالأجهزة العسكرية والأمنية لا تخضع لشورى الشعب أو البرلمان إنما الكلمة الفصل تكون بشكل مركزي مرتبطة برأس الهرم "الزعيم " فتتحول هذه الأجهزة من مؤسسات مستقلة يُفترض أن تحمي الناس إلى مؤسسة فردية تقمع الشعب بأسره وتحمي" الرئيس " ليستمر في منصبه إلى مالا نهاية .
إن طبيعة الحكم التسلطي تحتّم استعمال العنف والإرهاب أكثر من اعتمادها على الشرعية الحقيقية، سواء كان عنف مادي مباشر يطال الأبدان والأرواح أو عنف وإرهاب فكري ومعنوي، فالانتخابات التي يفرزها هكذا نظام لا معنى له، لأنه يجمّد الحقوق المدنية المقترنة بحقوق الإنسان ، كما يعمل على توظيف الأجهزة الأيديولوجية والقمعية وينفق عليها الميزانيات الكبيرة لأنها هي التي تؤسس وتشرعن وجود هذا النظام وتؤمن الاستمرارية له .
الإشكال يكمن في بنية الوعي لدى الفرد وحسه بالمسؤولية أمام صناديق الاقتراع علاوة على إدراكه لحقوقه المدنية ، الثورات الحالية تُشكل قفزة في الوعي والخروج من دائرة الهرمية السلطوية القبلية البطريركية إلى العقلية التداولية التشاركية.
الثورة الحقيقية تبدأ وتكون من خروج الفرد عن "قمعه" وثورته على نفسه لان مفهوم التسلط يقبع في النفوس وإننا كبشر أسرى عنف يُمارس علينا ثم نعود فنمارسه دون أن ندري، هنا تكمن النقطة المحورية إن أردنا حرية حقيقية علينا أن نطلق سراح أنفسنا من اسر تسلطها وجورها بحق الآخرين وعندها ستنهار ممالك العنف .

مروة كريدية في سطور
تعد الكاتبة مروة كريدية واحدة من المهتمات بالقضايا الإنسانية واللاعنف وحقوق الإنسان ، حيث تطرح العلاقات الاجتماعية والسياسية من خلال رؤية وجودية تتجاوز الانقسامات الاثنية والدينية والجغرافية، وقد عملت في ميادين فكرية متنوعة، ولها العديد من الأعمال الأدبية و الفنية التشكيلية والخواطر الشعرية والأبحاث الميدانية في علم الاجتماع السياسي. شاركت في أعمال حوار الأديانواللاهوت المقارن، كما نشطت في ميدان الإعلام الثقافي .
تفرغت مؤخرا لدراسة ظواهر العنف في المجتمعات الإنسانية والبنى الفكرية المؤسسة لها وعلاقة ذلك بالحقوق والمدنية وعلاقتها ببنية الأنظمة السياسية والأيديولوجيات ، وهي تتبنى رؤية تتمحور حول كونية الإنسان ووحدة الوجود مما ينعكس في سلوك لاعنفي وانتماء كوني يحترم البيئة وكل الكائنات ويحافظ عليها .

ملاحظة/ أجري الحوار لصالح صحيفة "الأمة العربية"